يعتبر يعقوب الكندي موسوعة علمية بحدّ ذاتها. بدأ بحثه الحثيث عن المعرفة من خلال التفقه في الدين الإسلامي، قبل أن يتجه إلى دراسة اللغات الأجنبية، التي كانت بوابته نحو التعمّق في العلوم القديمة، أبرزها الفلسفة اليونانية.
فكان أول فلاسفة المُسلمين، ومؤسّس الفلسفة العربية الإسلامية، كما كان رائداً في علم البصريات الحديثة وتحليل الشفرات. وإلى جانب كلّ ذلك، كان الكندي بارعاً في الطب، والكيمياء، والفلك، والرياضيات.
له الفضل في إدخال الأرقام الهندية إلى العالمَين الإسلامي والمسيحي، وما قد لا يعرفه كثيرون أنه كان موسيقياً بارعاً أيضاً. فمن هو الكندي؟
ابن أمير.. وصديق المأمون والمعتصم بالله
اسمه الكامل أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن صباح. يُلقب بـ"الكندي" لأنه ينتمي إلى قبيلة كِندة في جنوب شبه الجزيرة العربية، وأحد أبناء ملوكها. وقد اختلف المؤرخون حول تاريخ ميلاده، لكن يُرجح أنه ولد عام 801 في مدينة الكوفة العراقية.
كان والده (إسحاق بن الصباح) أميراً على الكوفة في زمن الخليفتين العباسيين، المهدي وهارون الرشيد، ولكنه توفي عندما كان يعقوب طفلاً.
أتمّ الكندي حفظ القرآن وعدداً من الأحاديث النبوية الشريفة عندما كان في الـ15 من عمره. وعندما أراد تعلّم المزيد، قرر السفر برفقة والدته إلى مدينة البصرة في العراق، حيث درس "علم الكلام"، الذي يُضاهي علم الفلسفة لدى اليونانيين.
وبعد 3 سنوات، انتقل مع والدته إلى بغداد لتوسيع معرفته أكثر وأكثر. فدخل "بيت الحكمة"، الذي أنشأه هارون الرشيد وطوّره ابنه الخليفة المأمون، وأصبح من أبرز رواده وأكثرهم حضوراً.
يُقال إن يعقوب الكندي كان يمضي أياماً كاملةً في بيت الحكمة، لقراءة الكتب المُترجمة عن اليونانية والفارسية والهندية، قبل أن يقرر دراسة اللغتين السريانية واليونانية، حتى يتمكن من قراءة الكتب بلغتها الأساسية.
وقد وظّف أستاذين متخصّصين لتعليمه اللغتين، بفضل الأموال التي ورثها عن والده الأمير، فنجح في إتقانهما بعد سنتين قبل أن يقرر دخول مجال الترجمة؛ فصار يترجم الكتب التي يريدها إلى العربية، معتمداً على أسلوبٍ خاص، لا يغيّر فيه فكرة الكاتب ولكنه يجعلها سهلة الفهم.
بعد ذلك، سعى الكندي إلى نقل العلم، فأنشأ في منزله مكتبة كبيرة تضاهي في ضخامتها مكتبة بيت الحكمة، حتى صار الناس يقصدون منزله للتعلم ومكتبته للمطالعة؛ ما دفع بالخليفة العباسي، المأمون ابن هارون الرشيد، إلى دعوته للإشراف على بيت الحكمة.
لم يكن حينها قد تخطى 25 عاماً؛ وعندما خلف المعتصم بالله أخاه المأمون عام 833، صار يعقوب الكندي مربياً لأبنائه. ولكن مع تولي الواثق بالله، ثم أخيه المتوكل على الله عرش الخلافة العباسية، تراجع دوره في بيت الحكمة.
توجد عدة نظريات لتفسير أفول نجم الكندي في بيت الحكمة، وقد رجح البعض أن السبب هو "تشدّد" المتوكل على الله في الدين. ووفقاً لموسوعة "المعرفة"، فمن المرجح أن يكون الكندي قد تعرّض للضرب، وصودرت مؤلفاته، إلى أن توفي وحيداً في عام 873.
أسّس الفلسفة العربية الإسلامية
لا يُلقب يعقوب الكندي بـ"فيلسوف العرب" من فراغ، فهو يُعتبر مؤسس الفلسفة العربية الإسلامية قبل الفارابي وابن سينا، وقد حاول دائماً تقريب الفكر الفلسفي اليوناني إلى العربية، وجعله مقبولاً لدى المسلمين.
من خلال عمله في بيت الحكمة، وترجمته للعديد من النصوص الفلسفية المهمة، حاول إدخال الكثير من المفردات الفلسفية إلى اللغة العربية، وركّز كثيراً على إيجاد توافق بين الفلسفة والعلوم الإسلامية.
لفت موقع "مفكرون" إلى دور الكندي في مزج الفلسفة بالمنطق، ودفاعه عن تلك الفكرة. فقد كان يرى أن الفلسفة والدين أساسان مرتبطان، على حدّ سواء، في معرفة الحق. وقد تأثر بذلك بالحركة الاعتزالية النشطة في عصره.
ولا يعني ذلك بالضرورة أن يكون مُعتزلياً، إذ برزت رسائل له تدور حول أصول المعتزلة كالعدل والتوحيد، وأخرى في الاستطاعة وزمان وجودها، وردود على المانوية والمثنوية والملحدين.
ويرى الكثير من المطلعين أنّ فلسفة الكندي لم تتعارض مع الدين وإنما نصره بسلاح العلم والعقل، ويستندون في ذلك إلى إحدى أشهر رسائله الفلسفية التي تحمل عنوان "رسالة في وحدانية الله وتناهي جرم العالم"، والتي أثبت فيها وحدانية الله سبحانه وتعالى.
وتوصل بحث جامعي نشر بمجلة "الفلسفة" العراقية، تحت عنوان المعرفة عند الكندي في القراءات الفلسفية العربية المعاصرة، أن الفيلسوف العراقي أشار لوجود 3 طرق لكسب المعرفة، وهي: الحس، والعقل الطبيعي والبشري، وأخيراً الطريق الإلهي غير البشري الذي يفوق الحس والعقل الطبيعي، والذي يصل من خلال الرسل والأنبياء.
وأوضح أن طريقة الحس والعقل البشرية تتضمن علوماً ومعارف ومناهج مختلفة. أما الطرق الإلهية فلا تتطلب البراهين، أو الأدلة العلمية، لأن فهمها يكمن بالإيمان.
كما أن هناك نوعاً من الفلسفة توصل إلى الإيمان بالعلوم الإلهية، وقد عُرف بالفلسفة الأولى، تلك التي تبحث في علة الوجود، والتي يشير إليها أرسطو بكونها أسمى وأرقى وأشرف درجات ورتب الفلسفة.
اعتراف علماء أوروبا بريادته لعلم البصريات
كان الكندي عالماً مُتعدد الاختصاصات؛ وإضافة إلى تعمقه في الفلسفة، فقد كان بارعاً في علومٍ شتى، أبرزها علم البصريات. فهو أول من وضع أسس علم البصريات الحديث، بعدما شكّك في نظريات الرؤية لدى الإغريق.
فأوضح أنّ مخروط الرؤية لا يتعلق بأشعة غير مرئية، كما قال إقليدس، بل يبدو ككتلة ذات ثلاثة أبعاد من الأشعة المستمرة، بحسب ما جاء في كتاب "ألف اختراع واختراع" للعراقي سليم الحسني، الأستاذ المتقاعد في الهندسة الميكانيكية.
ولفت الكتاب ذاته إلى أن عالم الفيزياء والرياضيات الإيطالي، جيرونيمو كاردانو، قال إن الكندي واحد من 12 عقلاً عملاقاً في التاريخ، لأنه بحث في كيفية سير أشعة الضوء على خط مستقيم، وتحدث عن الإبصار بمرآة ومن دون مرآة، وعن أثر المسافة والزاوية في الإبصار وفي الخداع البصري.
كتب الكندي مقالين في علم البصريات الهندسية والفيزيولوجية، اطلع عليهما واستخدمهما فيما بعد كلٌّ من: الفيلسوف والراهب الإنجليزي روجر بيكون، والعالم الفيزيائي الألماني وايتلو، في القرن الـ13.
وجاء في مقالة العالم الدنماركي سباستيان فوغل، في القرن العشرين: "إن روجر بيكون لا يعتبر الكندي واحداً من سادة الرسم المنظوري فحسب، بل كان هو وأمثاله في المنظور الخاص به، يرجعون إلى الكندي ويأخذون من علمه في البصريات".
تعمق في الطب والفلك والرياضيات والكيمياء
توسع الكندي في دراسة الطب، فكان له أكثر من 30 أطروحة في هذا المجال تظهر تأثره بأفكار جالينوس. ومن أهم أعماله كتاب "رسالة في قدر منفعة صناعة الطب"، والذي أوضح فيه كيفية استخدام الرياضيات في الطب، ولا سيما في مجال الصيدلة.
فقد وضع الكندي، على سبيل المثال، مقياساً رياضياً لتحديد فعالية الدواء، إضافة إلى نظام يعتمد على أطوار القمر، يسمح للطبيب بتحديد الأيام الحرجة لمرض المريض.
وفي علم الفلك، اتبع الكندي نظرية بطليموس حول النظام الشمسي، التي تقول بأن الأرض هي المركز لسلسلة من المجالات متحدة المركز، التي تدور فيها الكواكب والنجوم المعروفة.
وساق إثباتات تجريبية حول تلك الفرضية، قائلاً بأنّ اختلاف الفصول ينتج عن اختلاف وضعيات الكواكب والنجوم وأبرزها الشمس، وأن أحوال الناس تختلف وفقاً لترتيب الأجرام السماوية فوق بلدانهم.
وفي الرياضيات، أنجز أعمالاً في عدد من الموضوعات الرياضية المهمة، بما فيها: الهندسة، والحساب، والأرقام الهندية، وضرب الأعداد، والأعداد النسبية، وحساب الوقت.
وله مؤلَّف يقع في أربعة مجلدات، بعنوان "كتاب في استعمال الأعداد الهندية"، الذي ساهم بشكل كبير في نشر النظام الهندي للترقيم في العالمين الإسلامي والمسيحي.
برع في علم التشفير.. ووضع قواعد الموسيقى العربية
كان الكندي رائداً في علم التشفير، وله الفضل في تطوير طريقةٍ يُمكن بواسطتها تحليل الاختلافات في وتيرة حدوث الحروف، واستغلالها لفك الشفرات.
وتم اكتشاف براعته في هذا المجال من خلال مخطوطة وُجدت مؤخراً في الأرشيف العثماني بإسطنبول، تحت عنوان "مخطوط في فك رسائل التشفير"، والتي أوضح فيها أساليب تحليل الشفرات، والتشفير والتحليل الإحصائي للرسائل باللغة العربية.
وفي مجال الكيمياء، عارض الكندي أفكار الخيمياء القائلة بإمكانية استخراج المعادن الكريمة أو الثمينة كالذهب، من المعادن الخسيسة. كما يعتبر، رفقة جابر بن حيان، من مؤسّسي صناعة العطور، بحيث أجرى أبحاثاً واسعة وتجارب في الجمع بين روائح النباتات عن طريق تحويلها إلى زيوت.
وامتدت معارف الكندي إلى مجال الموسيقى، بحيث يعتبر أول من وضع قواعد للموسيقى في العالم العربي، فاقترح إضافة الوتر الخامس إلى العود، كما وضع سُلماً موسيقياً من 12 نغمة، لا يزال يُستخدم في الموسيقى العربية حتى اليوم.