قبل اختراع الطائرات والسفن، وزوال جزءٍ كبيرٍ من مشقة الحج، كان الاستعداد لانطلاق رحلات الحج المغاربية يبدأ قبل 8 أشهر من بداية مراسيم الحج، فبعد الانتهاء من الاحتفاء بذكرى المولد النبوي الشريف، تشرع القوافل المغاربية في الاستعداد للسير في ركب الحج الذي يدوم عادةً عدة أشهر، وفي بعض الحالات تصل مدته إلى سنتين في حالات الضياع أو التأخر عن موعد الحج.
فقد كان الحجاج في رحلات الحج المغاربية، يودعون أهاليهم، ومنهم من يكتب وصيته، فلربما لا يعود، أمّا في الطريق فكانوا يلتحفون السماء ويفترشون الأرض.
فبُعد الشقة ووحشة الطريق وقلة الزاد؛ كلها عوامل كانت تزيد من لهفة المغاربة لزيارة البيت العتيق، وعيش مغامرة الحج، كما كانت فرصةً للكثير من الحجاج المغاربة لتدوين وتأريخ رحلاتهم، وكسب العلوم عبر المحطات التي يسلكها ركب الحجيج؛ الذي لطالما سار تحت ظلّ جِماله العديد من العلماء والمؤرخين الذين خلّد التاريخ رحلاتهم الحجازية.
رحلات الحج المغاربية تبدأ في ربيع الثاني وتدوم 8 أشهر
خلال العصر الوسيط، كانت رحلات الحج المغاربية إلى البقاع المقدسة لأداء مناسك الحج تدوم في المتوسط 8 أشهر، يقطعون فيها نحو 5 آلاف كيلومتر مشياً على الأقدام ضمن قوافل من الجمال والدواب، أي إنّ حج المغاربة يبدأ في شهر ربيع الثاني، فبعد أن يفرغ المغاربة من الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، يشرعون في الترتيبات لانطلاق ركائب الحج المختلفة.
كان تحضير الزاد الذي يوصل الحاج إلى مبتغاه سليماً هو التحدي الأوّل لدى الحجيج المغاربة، فعلاوةً على الدابة التي يقطع بها الفيافي والوديان، كان على الحاج المغاربي توفير مؤونة كافية لعدة أشهر، وأيضاً كان عليه شراء سلاحٍ يحميه في الطريق المليئة بالمصائب.
وكان الحجاج المغاربة يبدؤون رحلتهم إلى الحج من مدينة آسفي على حدود الأطلسي، ويقسمون رحلتهم الطويلة إلى مراحل من أجل الراحة والتزود بالمؤن، ومن أجل انضمام حجيج المناطق الأخرى.
أما أهم ما كان يوصى الحاج للتزود به في مؤونته في رحلات الحج المغاربية، فهو الجلد الأحمر والقرنفل والكحل والسواك والزعفران، كما يأخذ الحاج المغاربي معه اللباس المناسب لكل الفصول، كون رحلة الحج المغاربي قد تبدأ صيفاً وتنتهي شتاءً. كما كان يأخذ معه الفراش والوسائد والشموع للإضاءة والحبال وعدة أنواع من الأواني التي قد يحتاجها، حتى الوصول إلى القاهرة التي ينضم فيها الركب المغاربي إلى الركب المصري.
في الشتاء يسيرون في طريق، وفي الصيف في طريق آخر
كانت ركائب الحج في بلاد المغرب الإسلامي متعددة، ففي المغرب الأقصى اشتهرت 3 ركائب هي الركب السجلماسي الذي ينطلق من مدينة سجلماسة، والركب الفاسي الذي ينطلق من مدينة فاس، والركب المراكشي الذي ينطلق من مدينة مراكش.
أمّا بلاد شنقيط فينطلق منها ركب موحد هو الركب الشنقيطي الذي يسير إلى الجزائر التي يلتقي فيها ركائب الحج المغربية والموريتانية مع الركب الجزائري.
في الجزائر اشتهر الركب التلمساني والركب الجزائري، إضافة إلى ركب مدينة ورقلة، كما كان الركب الليبي والتونسي في انتظار الركب المغاربي للانضمام إليه.
ومن أجل مواجهة الظروف الطبيعية القاسية التي تزيد من مشقة رحلة الحج المغاربية، كان الحجاج المغاربة يعتمدون مسلكين في طريقهم إلى الحج، واحدةً يكون مسارها على الساحل صيفاً حيث تكون درجات الحرارة منخفضة بعض الشيء على ساحل المتوسط، وتكون فيها مدينة الجزائر ملتقى بين حجاج المغرب والجزائر.
أما الثانية فيكون مسارها جنوباً عبر الصحراء حين يكون موعد الحج في الشتاء، إذ يجتنب الحجاج المغاربة حينها البرد والأمطار، وتكون مدينة ورقلة الجزائرية ملتقى حجاج المغرب والجزائر.
ويكون الملتقى مع حجاج تونس في مدينة قابس قبل التوجه إلى طرابلس لملاقاة الحجاج الليبيين قبل التوجه إلى القاهرة التي تكون نقطة الجمع بين حجاج شمال إفريقيا وشرقها للدخول إلى الحج عبر طريق الدرب المصري.
في الغالب، يعكف الحجاج المغاربة على المكوث في القاهرة من أجل زيارة جامع الأزهر الشريف من أجل أخذ قسطٍ من العلوم والمعارف.
كانوا يزورون القدس أيضاً ويؤرخون رحلاتهم
بعد أن يفرغ الحجاج المغاربة من مناسك الحج، كانت أوّل محطة لهم بعد مكة المكرمة، هي زيارة المدينة المنورة، والنزول على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وزيارة البقيع التي كانت مهمةً لدى المغاربة.
كما كان الحجيج المغاربة يؤثرون المكوث لمدة أطول في المدينة المنورة، ومنهم من يستقر بها لما لهذه المدينة من وقعٍ في نفوس أهل المغرب العربي.
ومع مشقة الطريق وطولها الممتد لعدة أشهر، كانت قافلة الحجاج المغاربة تنزل بالقدس الشريف أيضاً، سواء في طريق الذهاب أم في طريق العودة، خصوصاً إذا كان في القافلة علماء ومريدون للطرق الصوفية، إذ كان الحجاج المغاربة يغتنمون فرصة الحج من أجل زيارة المسجد الأقصى والمكوث فيه لبعض الوقت.
ولعلّ رحلة أبي مدين الغوث رفقة طلابه إلى الحج، ومشاركته في طريق العودة في معارك تحرير القدس من يد الصليبيين أبرز مثالٍ على الطريق التي كانت تسلكها قوافل الحج المغاربية في العصر الوسيط.
كما كانت رحلات الحج المغاربية فرصةً لتدوين الحجاج مغامراتهم في رحلة الحج، خصوصاً العلماء والأدباء منهم، فنجد مثلاً رحلة العياشي الحجازية التي أطلق عليها اسم "ماء الموائد"، وهي الرحلة التي ذاع صيتها واشتهرت بين ساكني تلك الفترة من التاريخ، لما اشتملته من وصفٍ لبلدان المغرب العربي، الأمر نفسه ينطبق على رحلة ابن بطوطة المسماة "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، والورثيلاني التي سمّاها "نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار"، وغيرها الكثير.