أثناء دراسته في ألمانيا، عثر طبيبٌ مصري على مخطوطةٍ بعنوان "شرح تشريح القانون"؛ حدث ذلك عام 1924، وكانت هذه المخطوطة اكتشافاً مذهلاً وقتها، لأننا عرفنا من خلالها أن اكتشاف الدورة الدموية يعود لطبيبٍ مسلمٍ من القرن 13 يُدعى ابن النفيس.
قبل ابن النفيس، كان العلماء يعتقدون أن الدم يتكوّن في الكبد، ثم يسري في العروق بعد أن يمرّ على القلب، الأمر الذي دحضه الطبيب المسلم وأثبت عدم صحته.
يُعتبر ابن النفيس أحد كبار العلماء المسلمين الذين تركوا بصمتهم في تاريخ البشرية، خصوصاً في مجال الطب والاكتشافات العلمية، بعدما ثبُت أنه سبق الإنجليزي ويليام هارفي في اكتشاف الدورة الدموية بـ4 قرون.
ولإدراك عَظَمة ابن النفيس، علينا التعرّف على موسوعته الطبية "الشامل في الصناعة الطبية"، وهي أضخم موسوعةٍ طبية كتبها شخصٌ واحد في التاريخ الإنساني، وتمثل الصياغة الكاملة لما كُتب في الطب والصيدلة في عصر الحضارة الإسلامية.
فمن هو ابن النفيس؟
اسمه الكامل أبو الحسن علاء الدين علي بن أبي حزم القرشي الدمشقي، وقد وُلد نحو عام 1213 في مدينة دمشق السورية.
اختلف المؤرخون حول سبب تسميته بـ"القرشي"؛ ذكر البعض أن أصله يعود إلى قبيلة قُريش في الحجاز، بينما أكد آخرون أنه ينتسب إلى قرية "قَرش"، قرب مدينة دمشق. وقد لُقب بـ"ابن النفيس" نسبةً للقب عائلته.
تلقى المبادئ الأولى للقراءة والكتابة في دمشق، حيث حفظ أيضاً القرآن الكريم وتعلم شيئاً من الفقه والحديث الشريف، قبل أن يتخصّص في دراسة الطب عندما كان عمره 22 عاماً، في البيمارستان النوري.
والبيمارستان النوري يقع في قلب دمشق، وقد بناه الملك العادل نور الدين زنكي في العام 1154 كمستشفى للمحتاجين، قبل أن يصبح واحداً من أشهر المستشفيات ومدارس الطب في البلاد الإسلامية؛ وقد تعلم فيه كبار الأطباء، مثل: ابن سينا، والزهراوي.
ووفقاً لموقع "إسلام أون لاين"، فقد اتجه ابن النفيس لدراسة الطب بعد أزمةٍ صحية ألمّت به، تحدث عنها في أحد كتبه قائلاً: "حين عوفينا من تلك المرضة، حَمَلنا سوء ظننا بأولئك الأطباء (الذين عالجوه) على الاشتغال بصناعة الطب لننفع بها الناس".
وتذكر العديد من المراجع التاريخية أنه درس الطب في البيمارستان النوري على يد مهذب الدين عبد الرحيم، المعروف باسم "المهذب الدخوار"، أحد كبار الأطباء في التاريخ الإسلامي.
وبعد سنوات قليلة فقط من دراسته بالبيمارستان النوري، أصبح ابن النفيس طبيباً مشهوراً بدمشق، قبل أن ينتقل للعمل في مدينة القاهرة المصرية، عاصمة الدولة الأيوبية في ذلك الوقت.
وهناك عمل في البيمارستان الناصري، الذي بناه صلاح الدين الأيوبي عام 1182. وبحسب صحيفة "روز اليوسف" المصرية، فقد بدأ ابن النفيس العمل بذلك المستشفى الكبير، عندما كان يبلغ من العمر 28 سنة، حيث تدرّج وأصبح كبير الأطباء.
بموازاة مزاولته الطب في مصر، كان قد بدأ يكتب مؤلفاته الشهيرة، وانتهى في العام 1242 من تأليف كتابه الشهير "شرح تشريح القانون لابن سينا" -الذي تضمن اكتشافه التاريخي عن الدورة الدموية، وهو تعليق على كتاب ابن سينا.
عايش ابن النفيس فترة مهمة من التاريخ الإسلامي، حين غزا المغول البلدان المسلمة قبل أن ينجح المماليك في دحرهم. وتذكر الصحيفة المصرية أن كتبه كانت موجودة في مكتبة بغداد، التي أحرقها المغول بعدما اجتاحوا المدينة.
طبيب السلطان الظاهر بيبرس الخاص
في العام 1260، أصبح ابن النفيس الطبيب الخاص لسلطان دولة المماليك في مصر، الظاهر بيبرس. وقد بقي يعالجه حتى وفاة الأخير عام 1277، وهي الفترة التي عرفت خلالها مصر كارثة صحية فظيعة.
ففي سنة 1272، ضرب البلاد وباءً فتاكاً قضى على مئات النساء والأطفال والرجال. حينها برز نجم ابن النفيس، الذي قاد حملةً للقضاء عليه ونجح، فنال شهرة ومكانة مرموقة لدى المصريين، وأصبح يُلقب بـ"أبو العلاء القرشي المصري".
بعد ذلك، أكرمه السلطان الظاهر بيبرس بمبلغٍ كبير من المال استثمره بشراء منزلٍ فسيح في جزيرة الروضة بنهر النيل، فصار له مجلس علمي وأدبي وديني يتردد عليه علماء ومشايخ القاهرة.
بعد وفاة الظاهر بيبرس، خلفه على عرش دولة المماليك ابنه الملك السعيد، ثم ابنه الثاني، قبل أن تتم مبايعة المنصور سيف الدين قلاوون سلطاناً للدولة سنة 1279.
اتبع السلطان قلاوون نهج سلفه في الاهتمام الكبير بالطب، فأنشأ مستشفى ضخماً بالقاهرة سُمّي "البيمارستان المنصوري"، وعيّن ابن النفيس رئيساً لأطبائه؛ المنصب الذي بقي فيه حتى وفاته عام 1288.
أول من تحدث عن تأثير الملح في ارتفاع ضغط الدم
صحيح أنه اشتهر باكتشاف الدورة الدموية الصغرى، مصححاً ما كان يعتقده ابن سينا وجالينوس بأن الدم يتولد في الكبد، لكن ابن النفيس كان أول من تحدث عن تأثير الملح في ارتفاع ضغط الدم أيضاً.
لابن النفيس الفضل في الإشارة إلى أن العضلة القلبية تتغذى من الشرايين الإكليلية أو التاجية، وكان أول من أشار إلى الاعتدال في تناول الملح، مقدّماً أدق الأوصاف عن خطورة الملح وتأثيره في ارتفاع ضغط الدم.
كما أبدع في شرح وظيفة الإبصار في العين، إذ يقول: "إن العين آلة للبصر، وليست باصرة، وإلا لرُئي الواحد بالعينين اثنين، وإنما تتم منفعة هذه الآلة بروح مدرك يأتي من الدماغ".
ولابن النفيس نظريات صائبة في فيزيولوجيا الرؤية، وهو يفرق بين فعل الإبصار والتخيل، ويقول إن لكل من هذين الفعلين مركزاً خاصاً في الدماغ. وفي كلامه عن القرنية، يشير إلى أنها مؤلفة من 4 طبقات وشفافة، و"لا تحتوي على عروق دموية لئلا يتغير إشفافها".
تُشير مراجع مختلفة إلى أن ابن النفيس ما كان ليصل إلى اكتشافاته، لو لم يقم بتشريح الحيوانات ويعتمد على الفحص العيني الدقيق، ويجري دراساتٍ عميقة لما كتبه الأطباء الذين سبقوه.
وإضافة لمؤلفه "شرح تشريح القانون"، فقد اشتهر ابن النفيس بكتابٍ آخر هو "كتاب الشامل في الصناعة الطبية"، أضخم موسوعة علمية في التاريخ الإنساني لمؤلف واحد.
تمثل الموسوعة الصياغة النهائية والمكتملة للطب والصيدلة في الحضارة العربية الإسلامية بالعصور الوسطى، وقد وضع مسودتها بحيث تتكون من 300 مجلد، إلا أنه دوّن منها 80 مجلداً فقط قبل وفاته.
وله كتاب مهم حول التغذية، بعنوان "المُختار من الأغذية"، وقد قسّمه إلى قسمين؛ يشمل القسم الأول دراسة في تطور نظرية التداوي بالغذاء عبر الحضارات القديمة، بدءاً من التراث الطبي العربي وانتهاءً بالعصر الحديث، ويحقق القسم الثاني رسالة ابن النفيس التي تحمل عنوان المختار من الأغذية.
لم تقتصر شهرة ابن النفيس على الطب، بل كان أيضاً من كبار علماء عصره في اللغة والفلسفة والفقه والحديث.. لقد كان موسوعة علمية بحد ذاتها، من دون أن ينل الشهرة التي يستحقها.
طبيب مصري وراء الإشارة إلى أهمية ابن النفيس
لم ينل ابن النفيس حقه من الشهرة، مثل غيره من الأطباء المسلمين، حتى جاء محيي الدين التطاوي، وهو طبيب مصري كان يحضّر لرسالة الدكتوراه في ألمانيا.
كشف الطبيب المصري عن جهود ابن النفيس في أطروحته العلمية عام 1924، بعنوان: "الدموية الرئوية وفقاً للقرشي". فقد كان التطاوي اطّلع على المخطوطات العربية في مكتبة برلين، حين عثر على مخطوطة ابن النفيس "شرح تشريح القانون لابن سينا".
فاهتم الطبيب المصري بدراسة المخطوطة جيداً، وسيرة صاحبها، فقرر أن يكتب رسالته العلمية عنهما وقدّمها لجامعة "فرايبورغ" الألمانية.
في البداية، لم يصدق أساتذة التطاوي ما تضمنته رسالته العلمية، وطلبوا مساعدة الطبيب والمستشرق الألماني مايرهوف الذي كان متواجداً في القاهرة وقتئذ. فأرسلوا إليه نسخة من رسالة الطبيب المصري طالبين رأيه.
أيّد مايرهوف ما جاء في رسالة التطاوي، وأبلغ حقيقة ما كشفه من جهود ابن النفيس إلى المؤرخ الأمريكي من أصول بلجيكية جورج سارتون. فنشر هذه الحقيقة في آخر جزء من كتابه "تاريخ العلم"، ثم بادر مايرهوف إلى البحث عن مخطوطات أخرى لابن النفيس.
ونشر نتيجة بحوثه في مقالات مختلفة، ومنذ ذلك الحين بدأ الاهتمام يزداد بابن النفيس، الذي أعيد اكتشاف إرثه العلمي والفلسفي من قِبل علماء ومؤرخي العصر الحديث.