قبل القرن السابع عشر، لم يعرف الناس شيئاً عن التفوق العرقي، ولم يعتبر الأمريكيون أنفسهم ينتمون إلى ما يُعرف اليوم باسم "العرق الأبيض". ولكن بمجرد اختراع الاسم، سرعان ما عرف انتشاراً واسعاً، لدرجة أنه أعاد تشكيل العالم الحديث.
فالعرق الأبيض هو صاحب نظرية التفوق على الأعراق الأخرى (White Supremacy)، وهي نظرية ذات فكرٍ عنصري يرى ذوي الأصل "الأبيض" أعلى قيمة من ذوي الأصول الأخرى، وأسياداً على كل البشر.
ومع الوقت، أصبحت هذه النظريات أكثر من مجرد أفكار، بل توجهات سياسية تشجع "البِيض" في سيطرتهم على جميع نواحي الحياة: الاجتماعية، والسياسية، والصناعية. وليس تفصيلاً أن الاستعمار الغربي في إفريقيا، وآسيا، وأمريكا، قام أولاً على التفوق العرقي.
هذه الأفكار كانت شائعة في أمريكا قبل الحرب الأهلية، وكان أصحاب البشرة الملونة محرومين من أبسط الحقوق والمناصب الإدارية والحكومية طبعاً، وقد استمرّ ذلك حتى النصف الثاني من القرن العشرين.
انتشرت منظمات "سيادة البِيض" في جنوب إفريقيا أثناء فترات التفرقة العنصرية حتى عام 1990، كما انتشرت هذه الحركات أيضاً في أوروبا لأوقاتٍ متفاوتة، حتى وصلت إلى النازية التي نقلت التفوق العرقي إلى مكانٍ آخر.
اليوم، لا يُمارس التفوق العرقي بشكله القديم إلا في أمريكا التي تضمّ مجموعات يمينية متطرفة، ما زالت تعتبر أن العرق الأبيض متفوق على الآخرين؛ إلا أن العنصرية التي تُمارس ضدّ اللاجئين والأقليات، في جميع أنحاء العالم، تنطلق في أحيان كثيرة من فكرة التفوق العرقي.
ولكن، كيف نشأت فكرة التفوق العرقي؟
الحقيقة أن تاريخ العرق في أمريكا يكون ناقصاً على نحوٍ فادح، إذا لم يتم التطرق إلى السرديات التي تروي كيف جاء "مجتمع البِيض" إليها في الأساس.
وفق صحيفة The Guardian البريطانية، فإن أول استخدامٍ قانوني لكلمة "أبيض" ظهر في قانونٍ خاص بمُستعمَرة فرجينيا عام 1691، هدف إلى فرض عقوبات خاصة على زواج الأعراق المختلفة والعلاقات الجنسية.
نصّ القانون على التالي: "لمنع ذلك الاختلاط البغيض وتلك القضية غير الشرعية التي ربما تستشري فيما بعد؛ أيُّما رجل أو امرأة من الإنجليز، أو غيرهم من الشعوب البيضاء، يتزوجان من رجلٍ أو امرأة من الزنوج أو الملاتو أو الهنود.. فإنهما يُنفيان ويُطردان من هذه المستعمرة للأبد".
ويمكن القول إن هذا القانون هو المثال الأول الذي يوضح كيف حاول زعماء المستعمرات أن يحافظوا على حدود العرق الأبيض، حسب فهمهم لها.
وهنا من الضروري أن نشير إلى أن كلمة "أبيض" وقتئذٍ لم تعنِ ما تعنيه اليوم، وكانت تقتصر على الأنجلوأمريكيين البروتستانت بصفة أساسية، وقد لعبت الانتماءات الدينية دوراً أساسياً في مفهوم "الهوية البيضاء".
ورغم ارتباط أفكار التفوق العرقي الأبيض بتاريخ الدين في الولايات المتحدة، إلا أن القليل من المراجع يعالج العلاقة الوطيدة بين الدين والعنصرية أو العبودية. فانتشار هذا التفوق العرقي لم يقتصر على المجتمع الأمريكي فقط، بل توغل في مؤسساته الدينية.
وباعتبارها الديانة السائدة في الولايات المتحدة، لطالما كانت هيمنة المسيحية البروتستانتية متورطة مع الهيمنة العرقية للبيض.
حينها لم يكن آخرون، مثل المهاجرين الألمان والأيرلنديين، يُصنّفون ضمن "البِيض"، ولم ينعم بمزايا المواطنة الكاملة سوى طبقة ملّاك الأراضي. لكن مفهوم العرق الأبيض وحدوده تغيّرا وتطوّرا على مدار التاريخ الأمريكي.
العبودية ولّدت العنصرية وليس العكس
في كتابه Black Reconstruction in America، يوضح ويليام إدوارد بورغاردت دو بوا (عالم اجتماع وناشط سياسي أمريكي من أصول إفريقية) أن العرق الأبيض لم يكن مفهوماً طبيعياً أو نتيجة ثقافية محتومة في الولايات المتحدة، حتى في إطار العبودية العرقية.
بدلاً من ذلك، كان العرق الأبيض -الذي ابتكره الأسلاف الأوروبيون- حلاً عرقياً مخططاً له، وقد وضعه زعماء المستعمَرات لمواجهة التهديد الاقتصادي الذي فرضته الطبقة العاملة ووحدتها.
ووفقاً لـ"دي بوا"، وهو من أهم دعاة الحقوق المدنية ومصدر كثير من الآراء الحاسمة حول حقائق العرق، فعندما صاغ المشرّعون النظام القانوني للعبودية العرقية وفرضوه خلال القرنين 17 و18، اتحد العمال الأوروبيون مع السود (عبيداً وأحراراً) ومع الأمريكيين الأصليين، وثاروا معاً ضد استغلال ملاك الأراضي البِيض.
رداً على ذلك، منحت "النخبة البيضاء" الرجال الأوروبيين كامل الصلاحيات السياسية والقانونية المكفولة للبِيض. وقد كان ذلك القرار بمثابة الضربة قاضية لوحدة الطبقة العاملة، المختلفة الأعراق.
فقد ساعد انضمام العمال الأوروبيين إلى العرق الأبيض في ضمان استمرار الهيمنة السياسية والاقتصادية من قِبل الطبقة المالكة، خصوصاً حين حصل العمال البِيض على مزايا مادية مرتبطة بالمواطنة الكاملة.
ومن خلال فصلهم اجتماعياً عن العمال "الملونين"، اقتصرت الطبقة العاملة على غير البِيض (السود في المقام الأول)، فقد أسّسوا حافزاً اقتصادياً قوياً للعنصرية المنهجية تجاه الطبقة العاملة.
وانطلاقاً من هنا، يمكن القول إن أحد أهم التطورات في ترسيخ فكرة العرق الأبيض حدث خلال النصف الثاني من القرن 17، في أمريكا البريطانية أو الإمبراطورية البريطانية.
في كتابه American Slavery, American Freedom، يؤكد المؤرخ الأمريكي إدموند مورغان أن "اختراع الهوية العرقية البيضاء" كان مدفوعاً منذ البداية بالحاجة إلى تبرير استعباد الأفارقة.
يؤكد المؤرخ الترينيدادي إيريك ويليامز فكرة مورغان في كتابه Capitalism and Slavery الذي صدر عام 1944، عندما يقول عبارته الشهيرة: "لم تولد العبودية من العنصرية، بل كانت العنصرية نتيجة للعبودية".
دور الاقتصاد في تطور مفهوم الرجل الأبيض
في أواخر عام 1694، كان يمكن لقبطان سفينة التشكيك في منطق التفوق العرقي -المستخدم حديثاً وقتئذ- لتبرير تجارة العبيد. فقد كتب الكابتن توماس فيليبس في مذكراته، قائلاً: "لا أعتقد أن هناك أي قيمة جوهرية في لون أكثر من لون، ولا أن الأبيض أفضل من الأسود، نعتقد ذلك فقط لأننا كذلك".
ولكن العرق الأبيض أثبت نفسه بسرعة كسلاحٍ قوي سمح للرأسمالية، عبر الأطلسي، بتأمين العمالة التي احتاجتها. وكما قال المؤرخ تيودور ألن في كتابه عن اختراع العرق الأبيض: "لقد وسّعت برجوازية المزارع عن عمد مكانة مميزة للفقراء البِيض من جميع الفئات، كوسيلة للتحول إلى العبودية الإفريقية أساساً لنظامها الإنتاجي".
ساعدت المنفعة الاقتصادية التي عادت بها تجارة العبيد إلى انتشار مفهوم التفوق العرقي (العرق الأبيض) وترسيخه أكبر في جميع أنحاء العالم، حتى أصبح ما يُمكن أن نطلق عليه "ديناً" بحدّ ذاته.
وهذا المصطلح استخدمه المؤرخ دو بوا، مشيراً إلى أن التفوق العرقي كان يعمل على جميع المستويات، النفسية والاجتماعية والسياسية. وقد تكيّف مع الظروف المحلية لكل دولة أو قارة.
وبشكلٍ أوضح: ما يعنيه أن تكون أبيض اللون في فرجينيا البريطانية لم يكن مطابقاً لما كان يعنيه في نيويورك قبل الحرب الأهلية الأمريكية مثلاً، وغير ما يعنيه في جورجيا خلال فترة قوانين "جيم كرو"، والأكيد غير ما يعنيه في أستراليا بعد الاتحاد، أو في ألمانيا خلال الرايخ الثالث.
لكن ما وحّد كل هذه التعبيرات كان فكرة أساسية عنوانها "التفوق العرقي": أن مجموعة معينة من الناس، تُسمّى البيض، كانت متفوقة على الآخرين. أو كما قال بنيامين دزرائيلي، رئيس الوزراء الفيكتوري (أحد أكثر الأيديولوجيين العرقيين التزاماً في عصره): "العرق يعني الاختلاف، والاختلاف يعني التفوق، والتفوق يؤدي إلى الهيمنة".
بعبارة أخرى، كانت فكرة العرق الأبيض مطابقة لفكرة التفوق ولازمتها طويلاً حتى اليوم. وعلى مدى القرون الثلاثة التي سبقت حركة الحقوق المدنية، كانت معادلة التفوق العرقي مقبولة في كل المجالات، حتى من قِبل الناس الذين كانوا -في سياقاتٍ أخرى- أكثر المدافعين عن الحرية والمساواة للإنسان.
في القرن الـ19 مثلاً، تم تأسيس منظمة "كو كلوكس كلان" التي ضمّت الأشخاص الراديكاليين ذوي البشرة البيضاء في الولايات المتحدة، ومارست الويلات تحت مسمّى "التفوق العرقي".
وقد استخدمت طقوساً وأقنعة مُتقنة لترهيب السود ومؤيديهم، خلال فترة إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية. كما جنّدت البِيض الفقراء عبر فكرة أن السود هم السبب وراء مشكلاتهم الاقتصادية.
مع ذلك، بحلول مُنتصف القرن العشرين، اعتُرف بجميع المهاجرين القادمين من جنوب وشرق أوروبا (وأبنائهم) على أنهم شعوب بيضاء، على نطاقٍ واسع سياسياً وثقافياً؛ ليكون ذلك ثالث "توسُّع" لنطاق العرق الأبيض.
خلال فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الـ20، استفادت هذه الجماعات من سياسات الإسكان الفيدرالي التمييزية، التي ساعدت في تكوين ضواحٍ للبِيض من سكان الطبقة المتوسطة على عكس المدن الداخلية "المُلوّنة" التي كانت تتزايد.
كما وُصفوا بأنهم من البِيض "العاديين"، حتى لو أن الثقافة الشعبية قد ساهمت أيضاً في تذكيرهم بأنهم لا يرقون إلى الجماليات المثالية للأنجلوأمريكيين.
كانت هذه فترةً حاسمة في تاريخ الولايات المتحدة، عندما صار لفظ "البِيض" مرادفاً لجميع الأسلاف الأوروبية، وصار المهاجرون الجُدد "إثنيّين". فقد أصبحت كلمة أمريكي تُطلق على ذوي الأصول الإسبانية والآسيوية، وفقط الأمريكي الإفريقي هو الموسوم والمختلف عرقياً عن "الأبيض".
ممارسات العرق الأبيض
انتشرت في القرنين الـ18 والـ19 قناعة عنصرية مفادها أن ذوي البشرة السمراء أكثر قدرة على تحمّل الألم من أصحاب البشرة البيضاء؛ وبناءً على ذلك، استُخدم السود كفئران تجارب في العمليات الطبية، رجالاً ونساءً.
حتى الأطفال لم يُستثنوا من هذه التجارب؛ وعلى اعتبار أنهم كائنات ليس لديها إحساس، كالبِيض، كانت هناك قناعة أخرى تؤكد أن السود أقلّ ذكاءً من البِيض. ما جعلهم عرضةً لتجارب علمية مختلفة.
فظيعةٌ هي الممارسات التي ارتكبها الأطباء "البِيض" -في زمن العبودية- على أصحاب البشرة السمراء، في إطار سعيهم إلى "فهم" هذا الاختلاف، وبمحاولةٍ منهم للتوصل إلى "علاجاتٍ" واستنتاجاتٍ علمية تحت مسمّى التفوق العرقي.
جراحات من دون تخدير، وثقب في الجماجم، إضافةً إلى حرق البشرة، وغيرها من الممارسات الشنيعة التي مارسها أشهر الأطباء الذين استعملوا السود كفئران تجارب لنظرياتهم العلمية.
في مطلع القرن العشرين، انتشرت قاعدة "القطرة الواحدة"؛ ووفقاً لهذا الاعتقاد، فإن الشخص الذي يُعتقَد أنه يجري في عروقه دمٌ إفريقي -ولو حتى قطرة واحدة- يُصنّف على أنه أسود.
وخلال فترة الفصل العنصري، أصبحت قاعدة "القطرة الواحدة" مُثبَتة في القانون والعُرف؛ فقد ظهرت في الوثائق القانونية لمدينة واشنطن، من سجلات الميلاد وصولاً إلى تراخيص الزواج.
وفي عام 1909، أصدرت كاليفورنيا قانوناً يحظر زواج اليابانيين من البِيض. ولاحقاً في عام 1922، تقدّم رجل أعمالٍ ياباني يُدعى تاكاو أوزاوا بطلب الحصول على الجنسية الأمريكية، استناداً إلى قانون منح الجنسية لعام 1906 الذي يُتيح للبِيض وذوي الأصول الإفريقية أن يُصبحوا مواطنين أمريكيين.
رُفض طلبه، فلجأ إلى القضاء. وقد وصلت القضية إلى المحكمة العليا للولايات المتحدة، التي قضت بإجماع الآراء أنه -بوصفه يَنحدر من أصولٍ يابانية- فإنه لا ينتمي إلى البِيض، وبالتالي لا يستحق الحصول على الجنسية.
في الفترة نفسها، مُنع بهاجات سينغ ثيند (باحث ديني من الهند خدم في الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الأولى) من الحصول على الجنسية الأمريكية، لأن القانون الأمريكي لا يسمح بمنح الجنسية إلا "للأشخاص البِيض الأحرار".
وحتى عام 1948، كانت القوات المسلحة الأمريكية مكوّنة فقط من البِيض، قبل أن يوقع الرئيس هاري ترومان أمراً تنفيذياً لإجراء دمجٍ عرقي للقوات المسلحة "من دون النظر إلى العرق، أو اللون، أو الدين، أو الأصل القومي".
قانون فيرجينيا الذي صدر عام 1691، وكان أول من استخدم لفظ "أبيض"، استمرّ تطبيقه حتى عام 1967. استغرق الأمر ما يقارب 3 قرون لإلغاء فرجينيا قانون التفوق العرقي.
وما حصل أن ريتشارد لافينج (أبيض البشرة) وميلريد جيتر (سوداء)، وهما من سكان ولاية فرجينيا، غادراها ليتزوّجا في واشنطن العاصمة. وعند عودتهما، وُجّهت إليهما تهمة خرق قانون النقاء العرقي، وثبتت إدانتهما، لكن أُرجئ تنفيذ الحكم شرط مغادرتهما الولاية.
أقام الزوجان في واشنطن وشرعا في تقديم التماسٍ لإلغاء قانون فرجينيا. وبالفعل في عام 1967، أصدرت المحكمة العليا للولايات المتحدة حكماً بالإجماع بإبطال سريان قانون فرجينيا، وهو القرار الذي امتدَّ أيضاً إلى قوانين مماثلة في 15 ولاية أخرى.
"عبء الرجل الأبيض" خلال فترة الاستعمار
إذا تتبعت تاريخ الاستعمار في أي دولة من دول العالم الثالث (حسب تصنيف الرجل الأبيض) ستجد أن التفوق العرقي كانت الفكرة الأساسية التي قام عليها الاستعمار -أي استعمار- ولم يكن يرى نفسه سوى "مُنقذ" الشعوب المستعمَرة من غياهب الجهل.
كان التفوق العرقي بمثابة جبهةٍ الغزو والسيطرة من قِبل الرجل الأبيض، ومدخل للوصاية والتحكم الاستعماري.
مرّ زهاء 120 عاماً منذ كتب شاعر التوسع الاستيطاني البريطاني روديارد كبلينغ قصيدته الشهيرة بعنوان "عبء الرجل الأبيض"، التي زعم فيها أن هناك امتيازاً عنصرياً للجنس الأبيض.
في قصيدته تلك، ناشد كبلينغ الأمريكان -المنتمين للعرق ذاته- الاستمرار في تحمل مسؤولية الزحف نحو الفلبين واحتلال أراضيها، وإن تحملوا في سبيل هذه "المهمة المقدسة" كلفة كبيرة، ولم يعودوا سالمين إلى أهاليهم.
فمن سيقوم غيرهم بنشر مكاسب الثورة الصناعية والحضارة الغربية؟ من سيحمل سواهم مشعل تنوير هؤلاء المتجهمين الذين، كما وصفهم كبلينغ، نصفهم يتصرف كشياطين والنصف الآخر بعقول أطفال؟ كانت هذه قمة تبلور فكرة التفوق العرقي.
ثلاث سنوات بقيت الحرب مشتعلة فيها (من 1899 حتى 1902)، وقد فُقد فيها 20 ألف جندي فلبيني دفاعاً عن أرضهم التي استُعمرت رغماً عنهم، وفقاً لاتفاقية باريس عام 1898 بتنازل إسبانيا المنهزمة أمام القوات الأمريكية.
وخلال الحرب نفسها، قُتل وأصيب عشرات آلاف الأمريكيين، وتراوحت أعداد المدنيين الذين سقطوا في الفلبين بين 200 ألف ومليون إنسان بسبب الأوبئة والمجاعات.
كل ذلك لأن سلطات الاحتلال تدّعي أنها موجودة فقط "بشكلٍ مؤقت كسلطة وصاية وتأهيل" حتى تصبح البلاد جديرة بالاستقلال. وبفضل استمرار المقاومة وتغيير واقع ما بعد الحرب العالمية الثانية، نالت الفلبين في النهاية استقلالها عام 1946.
ليس ذلك إلا مثالاً بسيطاً على عقلية الاستعمار والتبرير التي كانت تقدّمها الدول المستعمرة سبباً لاحتلالها دولاً أخرى، وبسط سلطتها على أراضيها.
فتوالت أحداث العالم بين استعمارٍ بريطاني وآخر فرنسي، وبين استقلالٍ لدول واحتلالٍ لأخرى، بالتزامن مع تصاعد حركات الحقوق المدنية المنادية بالمساواة والمنددة بالتفرقة العنصرية، حتى انتهى العالم بالشكل الذي نعيش فيه اليوم.
لكن ممارسات الاستعلاء والتمييز العنصري بقيت مستمرة على طريقة كبلينغ، ولو أنها قد تكون متوارية في بعض الحالات، لكنها في مرات أخرى تكون فاضحة وواضحة للعيان. وكثيرةٌ هي الأمثلة على الممارسات والجرائم التي تُرتكب بحق السود مثلاً في أمريكا، لم ننسَ بعد حادثة جورج فلويد الذي قُتل على يد شرطي "أبيض" في وضح النهار.
العرق الآري في ألمانيا النازية
كان الكونت هنري دي يولا نفيلير أول من نادى بنظرية أرستقراطية "الدم الألماني" في القرن الـ17 أو الـ18. وقد استخدم العلماء مصطلح الآرية في القرن الـ19 للإشارة إلى الشعوب الهندو أوروبية أو الهندو ألمانية، الذين استقروا في الهند وإيران وأوروبا منذ آلاف السنين.
في الوقت نفسه صنف العلماء الأوروبيون أيضاً اليهود والعرب على أنهم ساميون، وذلك لتوضيح التشابهات بين اللغة العربية والعبرية، واللغات الأخرى المشابهة لها.
ولكن إرساء قواعد النظرية الآرية جاء على يد أرتور دي غوبينو، في كتابه الذي نشره عام 1853 بعنوان "مقال في عدم تساوي الأجناس البشرية"، وفيه أعلن تفوق الجنس الآري على بقية العناصر البيضاء.
أوائل القرن العشرين واصل العلماء والكثير من الناس استخدام مصطلح الآرية كتصنيفٍ عرقي للشعوب، رغم أن التعريف الأصلي كان يُستخدم لدراسة التراكيب اللغوية. وقد روج بعض المفكرين مثل هوستن تشامبرليون لفكرة أن الآريين متفوقون عرقياً وثقافياً.
روّج لهذا المفهوم أدولف هتلر ومنظرو الاشتراكية القومية منذ نشأة الحزب النازي في عشرينيات القرن الماضي، حين عدّلوا هذا المصطلح لترسيخ الاعتقاد بوجود "العرق الآري" بهدف الترويج لأيديولوجيتهم وسياساتهم.
في عام 1920، عقد الحزب النازي أول مؤتمرٍ له وأُسندت قيادته إلى هتلر الذي أعلن برنامجاً من 25 نقطة، جاء في إحداها: "اليهود عرقية موهنة للمجتمع ومعيقة لنقائه العرقي، وبالتالي فإن اليهودي لا يمكن أن يكون عضواً في الدولة الألمانية".
ومع صدور كتاب أدولف هتلر "كفاحي" عام 1925، ازدهرت تلك الأفكار. وفي السنوات الأولى التي أعقبت تعيين هتلر في منصب المستشار عام 1933، استخدم مصطلح الآرية في كل مجالات الحياة العامة في دولة ألمانيا النازية (والتي يشار إليها بـ"الرايخ الثالث")، وشمل ذلك وضع التشريعات.
وكان "قانون إصلاح الخدمة المدنية والمهنية" أول قانون يلغي حقوق المواطنين اليهود. وصدر قانون الخدمة المدنية في 7 أبريل/نيسان 1933، واشتمل على مادة يُشار إليها باسم "الفقرة الآرية" (Arierparagraph).
وكانت هذه هي الصيغة القانونية الأولى المستخدمة لاستبعاد اليهود (و"غير الآريين" الآخرين) من المنظمات والوظائف ومن الجوانب الأخرى للحياة العامة. كما نص القانون على أنه "يجب أن يتقاعد الموظفون المدنيون الذين ليسوا من أصل آري".
كان هتلر مؤمناً بشدة بنظرية تفوق العرق الآري، لدرجة أنه أوفد في عام 1938 هاينريش هيملر (العضو البارز في الحزب النازي وأحد المهندسين الرئيسيين للهولوكوست) وفريقاً من 5 أعضاء إلى التيبت للبحث عن أصول العرق الآري.
في كتابه Hitler and India، يروي المؤلف فايبهاف بوراندر قصة هذه الرحلة الاستكشافية التي جرت عبر الهند قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بنحو عام.
هبطت مجموعة من الألمان خلسةً على الحدود الشرقية للهند، في مهمةٍ لاكتشاف مصدر العرق الآري.
فقد كان أدولف هتلر يعتقد أن سكان شمال أوروبا "الآريين" دخلوا الهند من الشمال منذ حوالي 1500 عام، وأن الآريين ارتكبوا "جريمة" الاختلاط بالناس غير الآريين المحليين وفقدوا السمات التي تجعلهم عنصراً متفوقاً على باقي الأعراق.
أعرب هتلر مراراً عن كراهيته العميقة لكل ما هو غير آري، وتحديداً اليهود، حتى وقعت المحرقة اليهودية (الهولوكوست)؛ وهي الإبادة الجماعية التي راح ضحيتها ملايين اليهود في الحرب العالمية الثانية، بسبب هويتهم العرقية والدينية على يد الحكم النازي في ألمانيا.
صحيح أن ضحايا الهولوكوست لم يكونوا من اليهود فقط، لكن المحرقة استهدفتهم بشكلٍ رئيسي. تُشير الأرقام إلى أن 7 من أصل 10، من اليهود في أوروبا قُتلوا بسبب هوياتهم.
وإلى جانب اليهود، قتل النازيون مجموعات أخرى من البشر، بما فيهم الغجر وأصحاب الإعاقة الجسدية. كما اعتقلوا وانتهكوا حقوق جماعات أخرى مثل المثليين والمعارضين السياسيين وغيرهم.
الهولوكوست كانت مثالاً للإبادة الجماعية، التي تعني قتل مجموعة كبيرة من البشر، عادة بسبب انتمائهم لجنسية أو عرق أو دين معين.