تحظى الفلسفة الرواقية برواجٍ كبير هذه الأيام، لكن هذه المدرسة الفكرية ليست جديدة، بل إن تاريخها يعود إلى العام 300 قبل الميلاد؛ وقد تأسّست في اليونان القديمة، على يد زينون الرواقي من كيتيوم (Citium).
هذه الفلسفة مبنية على الفضائل، وتمنح المرء إطاراً لأسلوب حياته. ورغم أن زينو أو زينو مؤسّسها، إلا أن أصولها تنقسم إلى 3 فترات: الرواقية المبكرة، والمتوسطة، والمتأخرة. وفي الكثير من الأحيان، يصعب التمييز بين آراء زينون نفسه وما أضافه أتباعه.
معنى اسم الرواقية؟
اسم الرواقية مستوحى من العبارة اليونانية "Stoa Poikile"، التي تعني الرواق المطلي. ووفقاً لموقع World Atlas، فقد كانت هذه العبارة تصف الهيكل المعماري المعروف باسم العَمَد، وهو طويل ويضمّ مجموعة أعمدة تزيّنها رسومات معارك تاريخية وأسطورية.
يقع هذا الهيكل على الجانب الشمالي من ساحة أغورا في أثينا، وقد اعتاد زينون وأتباعه الاجتماع أسفل ذلك العَمد لمناقشة أفكارهم، قبل أن يصبح زينون الأب المؤسّس لهذه اللفلسفة.
ولكن، ما هي الفلسفة الرواقية؟
بشكلٍ مبسط، صُمّمت هذه الفلسفة لمساعدة الناس على عيش أفضل حياة ممكنة. يمكن القول إنها فلسفة الحياة التي تزيد من المشاعر الإيجابية وتقلّل من المشاعر السلبية، وتساعد المرء على صقل فضائله الشخصية.
في أي لحظة وأي موقف وأي مرحلة من مراحل الحياة، توفر الفلسفة الرواقية إطاراً للعيش بشكلٍ جيد. فقد أراد مؤسّسها زينون أن يذكر الناس بما هو مهم حقاً، من خلال استراتيجيات عملية توصلنا إلى السعادة.
جاءت هذه الفلسفة مناقضة لفلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو، فقد أقام هؤلاء فلسفتهم على أساس البحث النظري قبل كل شيء. لكنّ الرواقيين لم يأبهوا بالآراء النظرية، بل بالجانب العملي من الحياة.
فليست الفلسفة عندهم أن يتقصى الإنسان بنظره الأرض والسماء ثم يقف عند هذا الحد، إنما هي -كما عرّفوها- فنّ الفضيلة ومحاولة اصطناعها في الحياة العملية.
فقد أُنشئت هذه الفلسفة عمداً لتكون مفهومة وقابلة للتنفيذ ومفيدة. ممارستها لا تتطلب تعلّم معجم فلسفي جديد تماماً، أو التأمل لساعات في اليوم. لكنها في المقابل توفر طريقة فورية وعملية للعثور على الهدوء، وتحسين نقاط القوة في شخصيتك.
هيمنت الفلسفة الرواقية في العصر الهلنستي خلال الفترة ما بين 323 و30 قبل الميلاد. وقد تأسّست هذه المدرسة الفكرية رسمياً عام 300 ق.م على يد زينون الرواقي من كيتيوم، كما تأثرت بالأكاديمية الأفلاطونية والمدرسة الميغارية.
وفقاً لـ"موسوعة ستانفورد للفلسفة"، تهدف هذه الفلسفة إلى بلوغ "السعادة والرخاء"، وهي حالة من الرضا والازدهار التي تتحقق بالتناغم مع الطبيعة. وقد رأى الرواقيون أن البشر جزءٌ من الطبيعة، لكنهم يختلفون عنها في قدرتهم على استخدام العقل. وخلصوا إلى أنه يجب عليهم التصرف بناءً على المنطق والاستدلال.
وقد تطوّرت الرواقية على مرّ العقود لتأخذ أشكالاً مختلفةً بعض الشيء، على يد مختلف الفلاسفة انطلاقاً من زينون. لكن الرواقية المتأخرة تبقى الأكثر شهرة.
الرواقية المبكرة: الأسس
بدأت في اليونان القديمة التي كانت مهد العديد من الفلسفات، وأرسى زينون أسس الرواقية وكان له تأثيرٌ هائل على هذه الفلسفة التي تأثرت ببعض الفلسفات الأخرى. فقد شدّد الرواقيون على قوة العقل والتفكير.
أسّس زينون هذه الفلسفة كنوعٍ من الاعتراض على مدرسة الأبيقورية الشهيرة. ويمكن القول إن زينون صاغ الرواقية المبكرة بناءً على أفكار الكلبية، التي تُعطي الأولوية للفضيلة والبساطة.
كان زينو يرى أن المعرفة العلمية شرط أساسٍ للحياة الأخلاقية؛ ولذا فقد قسم فلسفته إلى أبحاث ثلاثة: المنطق والطبيعة والأخلاق، على أن يكون الأولان وسيلتَيْن تؤديان إلى الثالث، وهو الغاية المنشودة.
أما المنطق فقد تأثر بما قاله أرسطو، وإن يكن قد أضاف إليه، وأما الطبيعة فقد بناها على مزيج من نظرية هرقليطس وآراء أرسطو، وأما الأخلاق فقد خفّف من غلواء المدرسة الكلبية وأدخل على صلابتها شيئاً من اللين.
وانطلاقاً من تلك العناصر المتفرقة، أُقيمت الفلسفة الرواقية، وللحقيقة لا يجوز لأحد أن يزعم أنها استمرارٌ للفلسفة الكلبية، كما يحاول البعض أن يُشيع.
كان من السهل على العامة الوصول إلى التعاليم الأولى للرواقية المبكرة، حيث كانت تُدرَّس أسفل العَمَد المغطى. وينصب تركيز الرواقية اليوم على الأخلاقية، بينما يجري تدريس الفيزياء والمنطق بشكلٍ منفصل. لكن زينون جادل بأن المنطق والفيزياء يجب أن يدعما الأخلاقيات دائماً.
ونجح تلميذه كليانثس في خلافة زينون كزعيمٍ علمي. أما ثالث الزعماء العلميين من الفترة المبكرة، فقد كان خريسيبوس من صولي. وأكثر ما يشتهر به خريسيبوس هو وضعه لنظام المنطق الافتراضي (حساب القضايا).
الرواقية المتوسطة
شهدت الفترة المتوسطة الانتقال من أثينا إلى رودس وروما، وظهور اثنين من الفلاسفة البارزين، بانتيوس وتلميذه بوسيدونيوس.
اهتم بوسيدونيوس بالجانب الديني للفلسفة، فيما نظّم بانتيوس المدرسة الرواقية في روما. فكان أكثر مرونةً في معتقداته مقارنةً بالرواقيين الأوائل، لاسيما أنه بسّط الأفكار المتعلقة بالفيزياء مثلاً، كما كان أقل اهتماماً بالمنطق مقارنةً بالرواقيين السابقين.
وضع بانتيوس وبوسيدونيوس أفكارهما اعتراضاً على أفكار خريسيبوس؛ فقد كانا على قناعة بأن خريسيبوس ركّز على المنطق أكثر من اللازم، ولهذا حاد بشدة عن الجذور الأفلاطونية والأرسطية للرواقية.
وتضم قائمة الرواقيين البارزين من الفترة المتوسطة في روما كلاً من شيشرون وكاتو. اشتهر كاتو بأفكاره الأخلاقية، لهذا أصبحت نزاهته الأخلاقية العنيدة رمزاً للفلسفة الرواقية.
الرواقية المتأخرة
سارت الرواقية المتأخرة على نهج المتوسطة بالتركيز على الأخلاقيات. وقد تصادفت تلك الفترة مع حقبة الإمبراطورية الرومانية، حين لم يكن الناس يدرسون المنطق والفيزياء بالقدر نفسه.
ويُمكن وصف الرواقية المتأخرة بأنها أشهر فترات هذه الفلسفة، لأنها الفترة الوحيدة التي شهدت نجاة الكتابات الأصلية للمذهب بالكامل.
كان سينيكا من الفلاسفة المعروفين في تلك الفترة، وقد استخدم الأحداث اليومية المحددة في كتاباته لمناقشة القضايا الأخلاقية. وتُعَدّ مجموعة الرسائل التي كتبها إلى لوسيليوس من أشهر أعماله.
كما شهدت تلك الفترة ظهور الرواقي الآخر ابكتيتوس. وتحظى أعماله، لاسيما The Enchiridion & Discourses of Epictetus بشهرةٍ كبيرة، حيث يمثل الأخير مدخلاً إلى الرواقية.
وتختلف المصادر حول هذه الرسائل؛ بعضها يُشير إلى أنها كتاب واحد، والبعض الآخر يؤكد أنها عبارة عن كتابين جمعهما تلامذة أبكتيتوس، بالاستناد إلى مراسلاته.
يصف ابكتيتوس في رسائله تلك هذه الفلسفة بأنها أسلوب حياة، وليست مجرد علمٍ نظري. مع الإشارة إلى أن ابكتيتوس قد وُلِدَ عبداً، وعاش مقتنعاً بفكرة أنه يجب علينا أن نتقبّل أي شيء يصيبنا بهدوء وحياد.
بينما يُمكن القول إن الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس هو واحد من أشهر أنصار الرواقية. ويُعَدُّ كتابه البارز المعروف باسم Meditations من أشهر كتب هذه الفلسفة على الإطلاق، أكثر الكتب قراءةً ومناقشةً حول العالم أيضاً.
كما تُمثل فلسفة أوريليوس وكتابه آخر الإسهامات الكبيرة من فترة الرواقية المتأخرة.
لم يحفظ لنا التاريخ مما كتب الفلاسفة الرواقيون في القرون الثلاثة الأولى من مدرستهم إلا أجزاءً قليلة متناثرة، لذا كان من المتعذر أن نردّ أجزاء المذهب إلى أربابها من أعلام الرواقيين. فأغلب المعلومات عن الرواقية تأتي من الكتب المنشورة في الفترة المتأخرة.
وتضم هذه القائمة أعمال سينيكا، وابكتيتوس، وماركوس أوريليوس. ووفقاً لكتاب Guide to the Good Life، يُشير الكاتب ويليام إيرفين إلى أن أعمال هؤلاء الفلاسفة مهمة للاطلاع أكثر على الفلسفة الرواقية، ولو أنها قد لا تكون مطابقة للفلسفة كما أسسها زينون الرواقي.