تاريخ تونس مليء بالشخصيات التاريخية التي خلّدت سيرها بالمجد، ومن بين هؤلاء خير الدين باشا المعروف بين التونسيين باسم "خير الدين التونسي"، الذي يعدُّ واحداً من أبرز رجال الإصلاح في تونس، حتى إنّه سُميّ بأبي النهضة التونسية، فقد تولى رئاسة الوزراء بإيالة تونس العثمانية في الفترة ما بين 1873 حتى 1877، وهي الفترة التي أجرى فيها خير الدين إصلاحاته وأخرج فيها تونس من خطر الإفلاس، قبل أن يُستدعى إلى الباب العالي حيث عيّنه السلطان عبد الحميد الثاني صدراً أعظم للدولة العثمانية.
خير الدين باشا.. الأسير القوقازي الذي صار أحد أبرز الشخصيات التونسية في التاريخ
لا يُعرف الكثير عن حياة خير الدين باشا المبكرة، سوى أنه ولد عام 1820 في قرية بجبال القوقاز لأسرة تنتمي إلى قبيلة أباظة، وتعرّض للأسر في مرحلة مبكرة من طفولته بعد مقتل والده في معركة عثمانية ضد الروس، وهي اللحظة التي غيّرت حياة هذا الطفل القوقازي.
فعقب أسره في تلك المعركة، بِيع خير الدين بسوق الرقيق في إسطنبول، حيث اشتراه القاضي العسكري الذي يدعى تحسين بك القبرصي وربّاه تربية خاصة، ما مكّنه من أن يكون فطناً وذا ذكاء كبير، غير أنه نشأ كعبد مملوك تحت سيادة تحسين بك، وذلك وفقاً لمذكرة جامعية بعنوان "خير الدين التونسي.. حياته وأطروحاته الإصلاحية".
في سن الـ17 سنة، بيع خير دين مرةً ثانية، هذه المرة كان سيده الجديد هو حاكم تونس الباي أحمد باشا، الذي استقدمه إلى تونس فأقام عنده وحمل اسمه، وفتح له أبواب العلم والسياسة والمناصب، بعد أن أحبه كابنه.
بعد 3 سنوات من قدومه إلى تونس، التحق خير الدين باشا بصفوف الجيش، برتبة بمباشي، أي قائد الخيالة، وكان لإتقانه اللغات العربية والعثمانية والفرنسية دورٌ في ترقيته السريعة في قيادات الجيش، فرقِّي في سلم الرتب العسكرية، حتى وصل إلى رتبة أمير الأمراء، أي جنرال، سنة 1852، هو في سنّ الـ32 فقط، وذلك بعد أن نال ثقة الباي فيه وفراسته.
وفي تلك السنة، سافر خير الدين باشا إلى باريس وأقام فيها 3 سنوات، حيث أثرى معارفه في الإدارة والقضاء، وهي الفترة التي أبهر فيها خير الدين باشا التونسيين من خلال متابعته للقضيّة المرفوعة لدى المحاكم الفرنسية ضدّ الوزير التونسي محمود بن عيّاد، الذي نهب الخزينة التونسية وفرّ إلى فرنسا، حيث نجح خير الدين في استرجاع مبلغ 24 مليون فرنك وردها إلى خزانة الدولة التونسية.
وبعد عودته من فرنسا سنة 1857، عُيّن خير الدين وزيراً للحربيّة في الحكومة التونسية، حيث كان من المؤيدين لوثيقة عهد الأمان التي صدرت عام 1857، وأقرت تساوي التونسيين في الحقوق، كما أدخل على وزارة الحربية إصلاحات عدّة من قبيل تنظيم إدارة الوزارة، وتحسين ميناء حلق الوادي، وإصلاح لباس الجيش البحري، وعقد اتفاقيّات مع الأجانب تضبط أساليب التعامل معهم من أجل المحافظة على البلاد واحترام سيادتها، إضافة إلى إنشاء مصنع بخاري لصناعة السفن وإصلاحها، والعمل على ربط مختلف جهات البلاد التونسيّة عبر شبكة طرقات، وذلك وفقاً لـ"مذكرات خير الدين باشا".
خير الدين باشا الذي أنقذ تونس من الإفلاس
في سنة 1862، قرّر خير الدين اعتزال العمل الرسمي لفترة، والاعتكاف لسنوات على قراءة كتب السياسة والفكر.
قبل أن يعود مرةً أخرى إلى المشهد السياسي التونسي في سنة 1871 رئيساً للجنة مراقبة المالية، وذلك بإلحاحٍ من باي تونس، وبعد عامين عين رئيساً لوزراء تونس، وهو المنصب الذي مكث فيه حتى 1877.
كانت إيالة تونس في الفترة ما بين سنة 1873 إلى سنة 1877 تعيش ظروفاً إقتصادية صعبة تنذر بقرب انهيارها، وذلك بسبب كثرة الدّيون نتيجة الفساد المستشري وسوء الإدارة والنّقص في الموارد البشرية، إلى جانب مخلّفات ثورة علي بن غذاهم سنة 1864، وذلك حسب كتاب "أعلام تونسيون" لمؤلفه الصادق الزمرلي.
مع ذلك، بادر خير الدين التونسي في عمليات الإصلاح الشاملة من أجل إنقاذ تونس من الإفلاس والإنهيار، فقام بإعادة تنظيم الإدارة وإصدار حزمة من القوانين في إطار مشروع إصلاحي واعد تضمّن: قانوناً لتنظيم الأوقاف، وآخر لإصلاح التعليم في جامع الزيتونة، كما قام بإنشاء مدرسة عصرية وهي مدرسة الصّادقية، وأنشأ أيضاً المكتبة العبدلية.
إضافةً إلى ذلك، قام بإنشاء قانون لتنظيم القطاع الفلاحي، وبعث مؤسّسة للأرشيف لحفظ وثائق الدّولة، وقانون لعدول المنفّذين لتنظيم الملكيّة.
لكن إصلاحات خير الدين باشا، اصطدمت بمعارضةٍ داخلية صلبة، كان يتزعمها كلٌ من الوزيرين مصطفى خزندار ومصطفى إسماعيل، اللذيْن أقنعا باي تونس محمّد الصّادق باي سنة 1877 بإقالته.
عيّنه السلطان عبد الحميد صدراً أعظم للدولة العثمانية، ونقل الحبيب بورقيبة رفاته إلى تونس
كان صيت خير الدين باشا خلال السنوات الأربع التي قاد فيها الحكومة التونسية قد ذاع بين الأصقاع، حتى وصل مسامع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، الذي قام باستقدامه إلى إسطنبول سنة 1878، وعينه صدراً أعظم للدولة العثمانية، في محاولة للاستفادة من خبرته الإدارية والإصلاحية.
كانت أبرز مساهمات خير الدين باشا خلال فترة توليه القصيرة، لمنصب الصدر الأعظم للدولة العثمانية، هو نجاحه في حلّ العديد من الخلافات الحدودية بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية، وذلك بحكم أصوله القوقازية وخبرته الدبلوماسية.
في عام 1879 استقال باشا من منصبه صدراً أعظم للدولة العثمانية، وبقي في إسطنبول حتى وفاته سنة 1890، حيث دفن بجامع أيوب بإسطنبول.
وعرفاناً لسيرته وأعماله، قامت السلطات التونسية بجلب رفاته إلى تونس سنة 1968 بناءً على طلب من الرّئيس الرّاحل الحبيب بورقيبة، كما طُبعت صورته على ورقة نقدية من فئة 20 ديناراً تونسياً، فضلاً عن إصدار البريد التونسي عدّة طوابع موشحة بصورته، في بادرة رسمية للاعتراف بتاريخ واحدٍ من أبرز رجالات الدولة العثمانية في تونس.