على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وغير بعيدٍ عن العاصمة الجزائر، تقع واحدةٌ من أجمل المدن الجزائرية، مدينة تيبازة، التي تنثر سواحلها عبق الجمال، وتعكس زرقة البحر، بينما تصطف غاباتها لترسم لوحات طبيعية ساحرة، أما في داخلها فتخفي المعالم الأثرية والتاريخية المنتصبة على ترابها تاريخاً طويلاً لمدينة جمعت بين طياتها مختلف الحضارات والحقبات التاريخية، من الفينيقيين إلى الرومان، ثم العثمانيين، والفرنسيين، أمّا الآن فقد تحولت بفضل ذلك إلى الوجهة السياحية الأبرز بالجزائر.
تاريخ مدينة تيبازة الممتد لأكثر من 26 قرناً
وفقاً لمقالة علمية بعنوان "تيبازة: ثاريخ وآثار"، كانت المدينة في الأصل ميناءً ترسو فيه السفن الفينيقية في تنقلاتها بين مدينة إيكوزيوم (الجزائر) ويول (شرشال)، ثم سرعان ما بدأ هذا الميناء في التوسع حتى صار مدينة ذات أهمية كبيرة، وذلك بعد قيام الحضارة القرطاجية التي أسسها الفينيقيون في شمال إفريقيا، في الفترة ما بين القرن الـ5 إلى القرن الـ2 قبل الميلاد، والتي قام فيها بتطوير المدينة وتوسيعها، وأطلقوا عليها اسم تيبازة، الذي يعني الممر باللغة المحلية.
ثم صارت تيبازة إحدى مدن الدولة النوميدية، التي قامت بالجزائر بعد القرن الـ2 في عهد الملك يوغرطة، ثم شكلت رفقة مدينة يول نواة دولة موريتانيا القيصرية Maurétanie Césarienne، وهي الفترة التي شهدت بناء الضريح الملكي الموريتاني الضخم.
خلال فترة الاحتلال الروماني لشمال إفريقيا أصبحت تيبازة مستعمرة عسكرية، وأحد المحاور المسيحية الهامّة في شمال إفريقيا، واحتوت على مجمّع حضاري متكامل من المدرّجات والمسارح والأديرة وغيرها من المنشآت.
فقد حوّلها الإمبراطور كلوديس إلى مستعمرة عسكرية، وأحد مراكز الجيش الأوغسطيني فيما بعد، وذلك بغرض المساعدة على غزو ممالك موريتانيا الغنية.
ثم سرعان ما أصبحت مجمّعاً حضارياً للرومان، به المدارج والمسارح وغيرها من المنشآت الرومانية المميزة، وذلك بعدما قطنها قادة الجيش الروماني وكبار الأثرياء الرومان، وأطلق عليها اسم "كولونيا إيليا تيباسنسيس"، ووصل عدد سكانها إلى 20 ألف نسمة في القرن الرابع الميلادي، وفقاً للمؤرخ ستيفان غسيل.
وفي عام 430، تعرّضت تيبازة إلى التدمير على يد متمردين ومُخرّبين من سكان المنطقة، الذين ثاروا على الرومان موازاةً مع وصول قبائل الوندال إلى المنطقة، لكن أعاد البيزنطيون بناءَها بعد قرنٍ واحد فقط.
في الفترة الإسلامية لم يكن للمدينة دور مهم مع بناء الفاتحين لمدن جديدة، وعدم اعتمادهم على المدن الفينيقية والرومانية، مع ذلك بقيت تيبازة عامرة بالسكان، وحافظت على آثارها حتى قدم العثمانيون وقاموا ببناء موقع "برج النابوط"، والذي كان حصناً لحراسة وتأمين مدينة شرشال خلال الفترة العثمانية.
وفي القرن التاسع عشر، ومع سقوط الجزائر في يد الاحتلال الفرنسي، سويت المدينة بالأرض مرة أخرى، قبل أن تنشأ على أطلالها المدينة الحديثة حالياً، والتي يقطنها حوالي 30 ألف نسمة، وهي الآن مزار سياحي ومصدر كبير للدخل، بسبب وجود الأطلال القديمة لمدينة تيبازة.
المواقع الأثرية والسياحية في مدينة تيبازة
تمتاز مدينة تيبازة بتواجد العديد من المواقع الأثرية التي تجعل المدينة وجهة سياحية بارزة في الجزائر، فقد جمعت المدينة مختلف الحقب التي عاشتها الجزائر من الفينيقيين إلى الرومان، ثم المسلمين، وأخيراً الاحتلال الفرنسي، والتي صنفتها اليونسكو في قائمتها للتراث العالمي للإنسانية، ولعلّ أبرز هذه المواقع والآثار ما يلي:
الفروم
من بين أهم المناطق الأثرية التي تزخر بها المدينة الساحة العمومية، التي تتوسط المواقع الأثرية للمدينة التاريخية، والتي تسمى الفروم.
استخدمت هذه الساحة العمومية كمركز للحكومة الرومانية في تيبازة، ثم إلى مقر لمجلس الشيوخ، قبل أن تتحوّل إلى مركز اقتصادي للأحياء الرومانية بالمدينة.
المدرج الروماني
يعدّ المدرج الروماني من أهم آثار تيبازة، والتي تعود إلى فترة الاحتلال الروماني للجزائر، حيث كان يحتضن المدرج مختلف الألعاب الرومانية.
ويوجد في الجزء الشمالي من مدرج الألعاب عدة أقواس تُعد دعامة للمدرجات، إضافة لوجود أسوار عالية قد حدت من الأبواب المشرفة على الساحة التي كانت حلبة مصارعة ورواقاً فنياً، وفيه بوابتان رئيسيتان، الأولى في الجانب الشرقي، والثانية في الجانب الغربي، إضافة لوجود ثلاثة أبوابٍ فرعية في كل جانب من جوانب المدرج، وفيه قبو.
المسرح الروماني
إلى الجهة الغربية، وبالقرب من الباب الغربي لمدينة تيبازة، يقع مسرح تيبازة الروماني الذي كان يمثّل، فترة بنائه، واحداً من أفخم المسارح الرومانية، وذلك من خلال طريقة تصميمه الفريدة بمدرجات نصف دائرية تعرف بالاكوركيسترا.
المنطقة النصرانية
تحتوي على مجمع ديني يعرف باسم البازيليك، تمّ الانتهاء من بنائه في القرن الـ4 الميلادي، وكان من أكبر المباني النصرانية في شمال إفريقيا.
الضريح الملكي الموريتاني
عبارة عن نصب هندسي جميل، يعكس الذوق الرفيع للإنسان القديم، ويشبه هذا القصر كومة التبن الضخمة، أو خلية النحل، حيث بُني بالحجارة الضخمة.
في هذا الضريح الذي يسمى أيضاً "قصر الرومية" باب سفلي ضيق، يوجد تحته الباب الخلفي للناحية الشرقية، وهو الممر السري للضريح، عند اجتياز باب القبر يجد الزائر نفسه في رواق يضطر للانحناء عند المشي به، في حائطه الأيمن توجد نقوش تمثل صورة أسد ولبؤة، لذا سُمي بـ"بهو الأسود"، وعند اجتياز هذا الرواق يوجد رواق ثانٍ طوله 141 متراً، وعلوه 2.40 متر، شكله ملتوٍ، ويقود مباشرة إلى قلب المبنى الذي تبلغ مساحته 80 متراً مربعاً.
السور الروماني
لحماية مدينة تيبازة، قام الرومان ببناء سور طويل يبلغ طوله 2300 متر، يحيط بتيبازة ويحمي العديد من المباني، لم يبقَ من هذا السور سوى أجزاء بسيطة، نظراً لتعرضه للتخريب والدمار عدة مرّات.
حصن برج النابوط
برج النابوط بُني في الفترة العثمانية لحماية مدينتي تيبازة وشرشال، ويقع على مشارف تيبازة، واليوم يعاني من تصدعات نتيجة زلزال الأصنام سنة 1980، والتأثيرات المناخية.