صحيحٌ أنه رفض السير على نهج والده وأجداده الذين كانوا "بياطرة"، ولكن ابن البيطار ورث عنهم حرفة "المداواة". وإذا كانت عائلته قد اشتهرت على مرّ الزمان بعلاج الحيوانات، فهو عمِل ليُداوي الإنسان.
لم يكن ابن البيطار ليصل إلى ما وصل إليه، لو لم يكن شغوفاً -منذ صغره- بعلم النبات، الذي تعمّق في دراسته إلى أن أصبح أكبر عالم نبات في القرون الوسطى، حتى لُقّب بـ"رائد العلاج الكيميائي" بعد أن اكتشف النبتة التي تعالج الأورام السرطانية.
اسمه الكامل ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد المالقي، وقد وُلد نحو سنة 1190 في مدينة مالقة الأندلسية، ونشأ وسط عائلةٍ مشهورة بتطبيب الحيوانات.
والده، ضياء الدين، كان بيطرياً وحداداً يصنع حداوي الخيل. وقد حرص على تعليم ابنه مهنة البيطرة منذ أن صار في العاشرة من عمره، ومن هنا اتخذ الاسم الذي اشتهر به "ابن البيطار".
لكن علاج الحيوانات لم يكن يستهوي ابن البيطار قط، بل كان -عوضاً عن ذلك- يفضّل الذهاب إلى الغابة حيث يتأمل الطبيعة، ويبحث عن الكائنات الغريبة، ويرسم الأشجار والنباتات.
ووفقاً لموقع "مفكرون"، فإنه من شدّة حبّه لها شرع في جمع المعلومات عنها، والبحث عن أسمائها ثم تدوينها، وحفظها. فكان ذلك أول ظواهر ميوله وشغفه بالتطبيب، والتداوي بالأعشاب.
تتلمذ على يد ابن الرومية الإشبيلي
في بداية شبابه، كان ابن البيطار محظوظاً بأن أُتيحت له الفرصة لتعميق معرفته بعلم النبات، عندما عمل في محل عالم النبات المشهور أبي العباس أحمد بن المفرّج، المعروف باسم "ابن الرومية الإشبيلي".
وقد كان محل ابن الرومية يقع وسط مدينة إشبيلية الأندلسية، وهو مخصّص لبيع مختلف أنواع النباتات، لا سيما الحشائش الطبية.
وتدريجياً، صار ابن البيطار تلميذاً لابن الرومية الإشبيلي؛ وتُشير عدة مراجع إلى أنه ساعد أستاذه في ملاحظة أوصاف النباتات، ودراسة خواصها الطبية، ومعرفة أماكن انتشارها، إضافةً إلى البيئة الملائمة لنموّها، وأسمائها المحليّة.
ويُقال إن ابن البيطار قد تلقى أيضاً أساسيات حرفة "الصيدلة"، على يد عبد الله بن صالح الكتامي، الذي كان يشتغل صيدلانياً في بلاط والي دولة الموحّدين بالأندلس.
رحلة ابن البيطار الطويلة طلباً العلم
في بداية شبابه، وبسبب حالة اللااستقرار السياسي الذي كانت تعيشه الأندلس في ذلك الوقت، غادر ابن البيطار البلاد باتجاه المغرب، الذي كان لا يزال يخضع لحُكم دولة الموحدين.
وحينها، كانت الأندلس تشهد بداية سقوط دولة الموحدين، بعد الهزيمة القاسية التي تلقاها جيش الموحدين -بقيادة السلطان محمد الناصر- على يد جيش النصرانيين -بقيادة ألفونسو الثامن، ملك قشتالة- في معركة "حصن العقاب" عام 1212.
وأوضحت موسوعة "المعرفة" أن ابن البيطار وصل إلى المغرب حاملاً معه رسالةً من أستاذه ابن الرومية الإشبيلي إلى أبي الحجاج، عالم النبات في تلك الديار. وبعد أن استقر به المقام فيها -هو وأسرته- نصحه أبو الحجاج بالسفر إلى بلاد الإغريق والرومان، حتى يُنهي دراسته لعلم النبات.
وفي رحلته الطويلة لطلب العلم، زار ابن البيطار مدينة بجاية الجزائرية عام 1220، التي كانت في ذلك الوقت قطباً علمياً معروفاً في العالم الإسلامي وأوروبا، وتوقف بعد ذلك في قسنطينة الجزائرية، قبل أن يرحل إلى تونس وطرابلس وبرقة.
وواصل سفره بحراً نحو آسيا الوسطى، فزار اليونان، ووصل به المطاف إلى أقصى بلاد الروم، ثم اتجه إلى المشرق الإسلامي، فزار بلاد فارس والعراق، ثم بلاد الشام ومصر.
منزلة رفيعة لدى الدولة الأيوبية في مصر
استقر ابن البيطار في مصر، وحظي بمنزلة رفيعة عند سلطانها الأيوبي الملك الكامل ناصر الدين محمد، الذي ألحقه بخدمته وجعله رئيساً على سائر العشَّابين.
وبعد خامس سلاطين الدولة الأيوبية، في سنة 1238، حظي عند الملك الصالح نجم الدين أيوب بما كان يحظى به عند والده -الملك الكامل- من منزلة، فكان يتنقل معه بين القاهرة ودمشق.
وخلال إقامته بين القاهرة ودمشق، أنجز ابن البيطار أهم مؤلفاته العلمية، وأبرزها كتاب "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية"، و"المغني في الأدوية المفردة". وما كان يميّز رحلته الطويلة، أنه كان يقيم في كل بلدٍ مدةً، يبحث فيها عن النباتات، ويدرس كل نبات في منبته، والأرض التي يعيش فيها.
ويُقال إنه كان يصطحب معه رساماً ليرسم له كل نبتةٍ بدقة، ثم يجتمع مع علماء تلك البلاد، فيأخذ عنهم ويتشاور معهم في مسائلها؛ ما منحه معرفة معمّقة بالنبات الموجود في البيئة العربية، وآسيا الصغرى، إضافةً إلى أوروبا أيضاً بحكم نشأته في إسبانيا.
اتبع ابن البيطار في بحثه المناهج نفسها التي اتبعها العلماء الذين سبقوه، في مجال صناعة الأدوية، مثل: ابن سينا، وجالينوس، وأبقراط، وديسقوريدوس. وكان دائم الاستشهاد بهم، وسار على ترتيبهم الأبجدي نفسه، ليُسهّل على القارئ والطالب عملية البحث.
وما يميّز منهج ابن البيطار أنه كان يرتكز على اجتناب التكرار قدر الإمكان، إلا في حال الحاجة الماسة إلى ذلك، بهدف تأكيد المعنى. كما تميّز بتدوين تنبيهات حول الأدوية، والتي غالباً ما تقع الأخطاء حولها بسبب النقل من دون التجريب، كما حاول سرد أسماء الأدوية المترجمة حسب الأسماء المتداولة بعدة لغات.
وفي مقدمة كتابه "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية"، لخّص ابن البيطار المنهج الذي اتبعه في أبحاثه، فقال: "ما صحَّ عندي بالمشاهدة والنظر، وثبُت لدي بالمخبر لا بالخبر أخذت به، وما كان مخالفاً في القوى والكيفية والمشاهدة الحسية والماهية للصواب نبذته ولم أعمل به".
ولفت موقع "إسلام ويب" إلى أن ابن البيطار، وخلال فترة إقامته بدمشق في خدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب، كان يقوم بجولات في مناطق الشام والأناضول، فيُعشب ويدرس.
وخلال الفترة ذاتها اتصل به ابن أبي أصيبعة، صاحب الكتاب الشهير "عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، فشاهد معه كثيراً من أنواع النباتات في دمشق، وقرأ معه تفسيرات أدوية كتابي الطبيب اليوناني "ديسقوريدس".
فكتب ابن أبي أصيبعة عن ابن البيطار، قائلاً: "رأيت من حسن عشرته وكمال مروءته وكرم نفسه ما يفوق الوصف، وشاهدت معه في ظاهر دمشق كثيراً من النباتات في مواضعها، ووجدت عنده من الذكاء والفطنة والدراية في النبات -وفي الكتب المؤلفة في هذا العلم- ما يثير التعجب لذاكرته المتوقدة النادرة".
وتابع يقول: "كان يذكر كل دواء في أي كتاب ذكر، وفي أي مقالة من هذا الكتاب، وفي أي عدد هو من جملة الأدوية المذكورة في تلك المقالة. إن ابن البيطار هو أوحد زمانه وعلّامة عصره في معرفة النبات وتحقيقه، واختياره، ومواضع نبته، ونعت أسمائه على اختلافها وتنوعها".
أنجز موسوعة حقيقية في الصيدلة
اهتمام ابن البيطار الكبير بتفاصيل النباتات الصغيرة والدقيقة تجلى في كتابه "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية"، والمعروف أيضاً باسم "مفردات ابن البيطار".
وقد وصف فيه أكثر من 1400 عقار نباتي وحيواني ومعدني، منها 300 من صنعه، مُبيناً الفوائد الطبية لكل واحد منها. كما ذكر ماهيتها، ومنافعها، ومضارها، وكيفية إصلاح ضررها، والمقدار المستعمل فيها، والبديل عنها. كما رتبها ترتيباً أبجدياً، مع ذكر أسمائها باللغات المتداولة في مواطنها.
وعن محتويات كتابه، قال ابن البيطار: "استوعبت فيه جميع ما في الخمس المقالات من كتاب الأفضل ديسقوريدوس بنصّه، وهكذا فعلت أيضاً بجمع ما أورده جالينوس في الست مقالات من مفرداته بنصّه، ثم ألحقت بقولهما من أقوال المحدثين وفي الأدوية النباتية والمعدنية والحيوانية ما لم يذكراه، وأسندت في جميع ذلك الأقوال إلى قائلها وعرفت طريق النقل فيها بذكر ناقلها".
ولابن البيطار كتاب شهير آخر هو "المغني في الأدوية المفردة"، وقد بحث فيه أثر الدواء في كل عضو من الجسم، مثل: الأذن، والعين، والمعدة، إضافةً إلى الأدوية المجملة ضد الحمى وضد السم.
ومن أهم مؤلفاته الأخرى، "كتاب صيدلية العطار من مجربات ابن البيطار"، وجمع فيه أكثر الأدوية والأغذية ذات الفوائد القيّمة، إضافة إلى التجارب التي نقلها عن العلماء القدماء.
ومن خلال كُتبه الشهيرة وما تحتويه من معلومات غزيرة، يتأكد أهل الاختصاص أنّ ابن البيطار -إضافة إلى كونه عالماً نباتياً كبيراً- كان أيضاً صيدلانياً وطبيباً، وقد أثبت بالدليل أن الأعشاب مفيدة للاستعمال العلاجي في مجال التطبيب.
فقد استخدم ابن البيطار الزيوت الأساسية للعلاج، بما يُعرف بـ"طب الروائح"، بعد استخراجها بطريقة التقطير والتبخير، ومنها الزيت المستخرج من ماء البرتقال، وماء الورد، والتي تُستخدم بوضعها على الجلد مباشرة أو بحرقها، كالبخور أو غيره.
اكتشف دور عشبة الهندباء في معالجة السرطان
لُقّب ابن البيطار بـ"رائد العلاج الكيميائي"، بعدما اكتشف أول دواء عشبي يعالج السرطان، وهو عشبة الهندباء (Hindiba)؛ النبتة التي أثبتت نجاحاً في مواجهة الأورام الخبيثة، ولا تزال تُستخدم حتى اليوم، لأنها تتمتع بخصائص مُضادة للسرطان، وقد اعتُرف بفوائدها في علاج الأورام.
ووفقاً لجريدة "الاتحاد" الإماراتية، فقد استعمل ابن البيطار بذور الخلة مع ضوء الشمس لعلاج مرض البهاق، وهو مرضٌ جلدي طويل الأمد، يحدث بسبب فقدان الجلد لونه الطبيعي.
كما أشارت صحيفة "الخليج" إلى أن الوصفات الطبية التي دوّنها ابن البيطار لقيت نجاحاً عظيماً في الشرق والغرب، واعتُمدت كأساسٍ لعلم العقاقير. وقد استُعمل كتابه "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" في تكوين أول صيدلية إنجليزية، أعدّتها كلية الطب في عهد الملك جيمس الأول، بالقرن الـ17.
لا توجد مراجع تاريخية تؤكد متى توفي ابن البيطار بالتحديد، ولكن العديد من المواقع المتخصصة تُجمع على أنه توفي بدمشق وهو في الخمسين من عمره، خلال قيامه بالأبحاث والتجارب على النباتات، بعدما تسرّب إليه السم وهو يحاول أن يصنع دواءً من إحدى النباتات.