على الرغم من أن مؤسس المدرسة الروسية للاستعراب، إغناطيوس كراتشكوفسكي، كان مفتوناً بكل ما يتعلق بالمشرق العربي، ابتداءً باللغة، مروراً بالتاريخ، وانتهاءً بالدين الإسلامي، فإنه يختلف عن المستشرقين الأوروبيين، فقد انغمس هذا الأكاديمي والباحث في فنون اللغة العربية، فدرس الشعر الجاهلي والتاريخ الإسلامي وقرأ الروايات العربية الحديثة، أما أبرز أعماله فكان ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الروسية.
من هو إغناطيوس كراتشكوفسكي؟
يعتبر إغناطيوس كراتشكوفسكي من أبرز الأكاديميين السوفييت، وحصد شهرته في العالم العربي من كونه مؤسس المدرسة الروسية للاستعراب، وفقاً لما ورد في موقع spbu.
ولد إغناطيوس كراتشكوفسكي عام 1883 بمدينة ڤيلنا، والتي يطلق عليها حالياً اسم ڤيلنيوس، وهي عاصمة جمهورية ليتوانيا على ساحل بحر البلطيق.
أبدى إغناطيوس اهتماماً باللغات والآداب الشرقية في وقت مبكر وبدأ بدراستها، فدرس في كلية اللغات الشرقية في جامعة سانت پطرسبورك اللغات العبرية والحبشية والفارسية والتركية التتارية، كما درس تاريخ الشرق الإسلامي، كما درس اللغة العربية وتعلم اللهجة الشامية.
ومن المثير للاهتمام أن إغناطيوس كراتشكوفسكي أتقن اللغة العربية لدرجة أنه أصدر في وقت مبكر عدداً من الدراسات، إحداها كانت عن الخلافة في عهد الخليفة العباسي المهدي، وقد استقى معلوماته لهذه الدراسة من المصادر العربية الأصلية، مثل مؤلفات الطبري وابن الأثير والعيني والمسعودي وغيرهم، وحاز الميدالية الذهبية عام 1905 عن هذه الدراسة. كما أنه نال درجة الماجستير عام 1907، وكان عنوان رسالته "أبو الفرج الوأواء الدمشقي".
وأخيراً، توجه كراتشكوفسكي إلى المشرق العربي، حيث أتيحت له الفرصة للانخراط بالمجتمع وتعلُّم آدابه وعاداته، فأمضى سنتين في سوريا ولبنان وفلسطين ومصر، وتردد على الكلية اليسوعية في بيروت، والجامع الأزهر والجامعة المصرية، والمكتبة الخديوية في القاهرة، والمكتبة الظاهرية في دمشق، والمكتبة الخالدية في القدس، ومكتبة الموارنة في حلب.
درس الشعر العربي وترجم القرآن الكريم إلى الروسية
بعد هذه الرحلة أصبح إغناطيوس كراتشكوفسكي متمكناً أكثر، وبدأ بنشر مؤلفات باللغة االعربية، مثل كتابه حول المخطوطات العربية، كما نشر تحت رعاية جامعة الدول العربية كتابه حول تاريخ المراجع الجغرافية عند العرب. وقد بلغ عدد مؤلفاته حول بلاد العرب وتاريخهم والدين الإسلامي قرابة 450، ما بين بحوث علمية وكتب.
كذلك فقد درس كراتشكوفسكي أشعار أبو العتاهية والمعرّي والمتنبي والبحتري، وصنّف أعمالهم في الغزل والهجاء والحماسة، كما درس الرواية التاريخية العربية، ونُشرت تحت إشرافه الطبعة الأكاديمية لـ"حكايات ألف ليلة وليلة".
أما أبرز إنجازاته على الإطلاق في هذا المجال فتتمثل بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الروسية. صدرت أول ترجمة للقرآن إلى اللغة الروسية في القرن الثامن عشر، وتبعتها ترجمات عديدة، لكنها جميعها حملت نواقص لاحظها كراتشكوفسكي، الذي يتقن اللغة العربية وفنون البلاغة، فجاءت ترجمته لتتلافى هذه النواقص وتوصل المعاني القرآنية بشكل أفضل. ومازال المختصون يعتبرون هذه الترجمة هي الأكثر دقة بين جميع التراجم الصادرة سابقاً ولاحقاً.
سجنه بتهمة التجسس
عاش إغناطيوس كراتشكوفسكي في حقبة زمنية تميّزت بكثرة الاضطرابات السياسية، خاصة بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية الروسية عام 1917.
وفي عام 1922 اعتُقل إغناطيوس كراتشكوفسكي مع زوجته بتهمة التجسس لصالح فنلندا، وكانت مثل هذه التهم توجّه كثيراً للشخصيات البارزة في البلاد في ذلك الوقت.
في البداية زُجّ به في سجن دائرة الأمن، ومنه نقل إلى زنزانة انفرادية، وقد بُني هذا الاتهام على وجود صلة لزوجته مع عائلة فنلندية، كانت تزوّدهم بالمواد الغذائية في عام 1917.
تدخلت إدارة أكاديمية العلوم الروسية لدى المسؤولين من أجل إطلاق سراح إغناطيوس كراتشكوفسكي، لا سيما أن التهمة باطلة من الأساس، ولكن لم يُطلق سراحُه، بل سُمح له فقط بالاستفادة من كتب المتحف الآسيوي لأكاديمية العلوم. وقرأ كراتشكوفسكي في السجن كتباً حول التاريخ العربي والإسلام والحضارة الإسلامية، كما درس النحو العربي، واللهجة المصرية، وكَتَب عدة مقالات.
وبعد جهود حثيثة بذلتها أكاديمية العلوم الروسية، صدر أخيراً قرار بنفي كراتشكوفسكي وزوجته إلى خارج البلاد، أو إلى مقاطعة ڤياتكا. وبعد أن تدخل في القضية ميخائيل سوكولوڤ، العالم المختص بالدراسات العبرية وصديق كراتشكوفسكي، استطاع إقناع السلطات ببراءة كراتشكوفسكي من التهمة الموجهة إليه. فأُخلي سبيله في 12 يناير/كانون الثاني 1923، وعاد إلى مكان عمله في كلية الاستشراق. وعمل هناك حتى وفاته في عام 1951.