لعل خوانا الأولى، ملكة قشتالة، كانت من أسوأ الملكات حظاً، فقد اتُّهمت بالجنون، وتعرضت للإقصاء من قِبل زوجها في بداية الأمر، ثم من قِبل والدها، وبعد ذلك من قِبل ابنها، فقد بقيت سجينةً مدة ستة وأربعين عاماً، بسبب طمع الرجال مِن حولها بمُلكها. وقد استغلوا جميعاً حجة إصابتها بالجنون لأسْرِها وإبعادها عن الحكم، فما قصتها؟
من "خوانا الأولى" إلى "خوانا المجنونة"
وُلدت خوانا في 6 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1479، وكانت الطفل الثالث والابنة الثانية للملكين الكاثوليكيين إيزابيلا الأولى وفرديناند، لكن تميزت خوانا عن إخوتها بأنها كانت صاحبة شخصية قوية، عنيدة وتحب قضاء الوقت بمفردها.
كذلك كانت خوانا طالبة مُجدة، أجادت العديد من اللغات، بما في ذلك الفرنسية واللاتينية والقشتالية والكاتالونية، وبرعت بالموسيقى والتاريخ والسياسة والفنون، كما كانت ماهرة في الصيد وركوب الخيل.
وعلى عكس والدتها وأختها الكبرى، لم تكن خوانا متدينة، ولم تكن ترغب في أداء الفروض الدينية أو الالتزام بالذهاب إلى القداس.
بحلول عام 1496 كانت خوانا تبلغ من العمر سبعة عشر عاماً، ورتّبت عائلتها خِطبتها لدوق بورغندي، فيليب فلاندرز، البالغ من العمر ثمانية عشر عاماً. وهكذا غادرت خوانا قشتالة متجهة إلى بلاد زوجها.
نشأت قصة حب قوية بين الزوجين، رغم أن زواجهما كان مدبراً، وكانت خوانا مولعة بحب زوجها الشاب للغاية، لكن فيليب لم يبادلها الغرام لفترة طويلة، فسرعان ما بدأ بخيانتها.
ملكة قشتالة
كانت والدة خوانا هي حاكمة قشتالة وليون، أما والدها فرديناند فقد كان حاكم أراغون، وكان من المفترض أن يرث ابنهما الأكبر مملكتهما، لكنه توفي شاباً، وتُوفيت من بعده أخته الوسطى، وهكذا أصبحت خوانا الأولى الوريثة الوحيدة.
وفي عام 1502، عادت خوانا وفيليب إلى طليطلة، ليتم الاعتراف بها كأميرة أستورياس، وهو اللقب الذي يُمنح لوريث عرش قشتالة.
وبسبب خيانات زوجها المتكررة، والضغط الذي تعرضت له، كونها حاملاً طوال الوقت- فقد حملت بأطفالها على التوالي- بدأت نوبات الغضب تجتاح خوانا، أما زوجها فقد بدأ يروج بكل برود لفكرة أن زوجته مجنونة.
بعد وفاة والدتها، أصبحت خوانا بشكل رسمي ملكة قشتالة وليون، الأمر الذي لم يرُق لزوجها، الذي سيصبح مجرد تابع لها من الآن فصاعداً، ولم يرُق أيضاً لوالدها فرديناند، ملك أراغون، الذي كان يرغب في الاستئثار بالسلطة لنفسه دون مشاركة ابنته.
فضلاً عن ذلك نشأ صراع خفي بين زوجها ووالدها، فقام الأول بصك النقود باسمه وباسم زوجته، بينما قام الثاني بصب النقود باسمه وباسم ابنته، في وقت كانت فيه خوانا لا تزال تنجب المزيد من الأطفال، وتعاني من اكتئاب ما بعد الولادة، والحزن على موت أمها، والغضب من خيانات زوجها.
ومع مرور الوقت باتت قشتالة على شفا حرب أهلية، بسبب دعم بعض الأشخاص لفرديناند، ودعم آخرين لخوانا وزوجها فيليب، لكن كفة الزوجين الشابين رجحت في النهاية.
انتقدت محاكم التفتيش ورفضت الطقوس الدينية
عندما وجد فرديناند أن الكفة تميل لصالح فيليب عقد معه اتفاقاً يقضي بتنازله عن قشتالة وليون تماماً لفيليب، لكن مع حجز خوانا واتهامها بالجنون، فبهذه الطريقة يضمن ألا تكون ابنته وريثة لأراغون من بعده، فقد تزوج فرديناند من امرأة ثانية بعد وفاة زوجته، أملاً في إنجاب طفل منها ليكون وريثاً للعرش.
وافق فيليب على الاتفاق الذي يضمن له الاستئثار بالسلطة، واتهم زوجته بالجنون، خاصةً مع وجود علامات تدعم ادعاءاته أمام العامة، فلطالما انتقدت خوانا محاكم التفتيش، ورفضت السلطة الدينية، وممارسة العبادات، الأمر الذي اعتبره كثيرون ضرباً من ضروب الجنون.
ستة وأربعين عاماً في الأسر
لم ينعم فيليب بالسلطة طويلاً، فسرعان ما تُوفي بسبب حمى التيفود، وقيل إنه ربما تعرض للتسمم من قبل فرديناند، الذي وجد بموته فرصة سانحة للاستيلاء على عرش خوانا.
انتشرت الشائعات حول جنون خوانا، الذي تعاظم بعد وفاة زوجها، فقد قيل إنها ظلت متمسكة بنعشه ورفضت التخلي عنه، كما احتفظت بالتابوت فترة طويلة في كنيسة بالقرب من القصر الذي تعيش فيه؛ كي تتمكن من زيارته.
استغل والدها هذه التصرفات- التي اختلف المؤرخون حول صحتها- وقرّر حبسها في الدير، وتعيين نفسه وصياً عليها بسبب جنونها المزعوم.
حاولت خوانا جمع عدد من الحلفاء حولها لمواجهة سلطة والدها، لكنها لم تستطع فعل ذلك، خاصة مع تفشي الطاعون في قشتالة، الأمر الذي جعل الأوضاع المعيشية صعبة للغاية، وفي النهاية تمكن والدها من بسط سيطرته، إذ كان يملك أموالاً أكثر واستطاع استقطاب عدد أكبر من الحلفاء.
وهكذا أصبحت مرة أخرى ملكة بالاسم فقط، وعلاوة على اتخاذ جميع قرارات الحكم، قام فرديناند أيضاً بطرد جميع الخدم المخلصين لخوانا، واستبدلهم بآخرين موالين له، وأمرها بالبقاء في الدير الملكي في قشتالة.
لم يستطع فرديناند إنجاب وريث له من زواجه الثاني كما كان يحلم، فقرر أن يعين ابن خوانا فرديناند (الذي سمته تيمناً بوالدها) وريثاً له.
وبعد وفاة فرديناند، وفي عام 1517، وصل تشارلز ابن خوانا- البالغ من العمر سبعة عشر عاماً- إلى أستورياس لتولي دوره كملك، وكان قد تربّى طوال تلك المدة في كنف عمته أخت فيليب. التقى تشارلز وشقيقته إليانور مع خوانا، وحصلا منها على الإذن بأن تشارلز سيكون شريكها في حكم قشتالة وليون وأراغون. ورغم أنه في تلك المرحلة كان بإمكان تشارلز إطلاق سراح والدته، فإنه لم يفعل. ومع ذلك قامت إليانور بترتيب الأشياء في سجن القلعة، بحيث كانت أكثر راحة لوالدتها.
وتوفيت خوانا عن عمر يناهز الخامسة والسبعين، في 12 أبريل/نيسان 1555، بعد أن أمضت ستة وأربعين عاماً في الأسر.