في يونيو/حزيران 1830، نزلت القوات الاستعمارية الفرنسية على شاطئ سيدي فرج بضواحي العاصمة الجزائرية، والهدف احتلال هذا البلد الشمال إفريقي، في تلك الأثناء كان الحاج أحمد باي بايلك قسنطينة في زيارة إلى الداي حسين من أجل الاستعداد لمجابهة الغزو الفرنسي.
على الرغم من وضع الباي أحمد لخطة ذكية لصدّ الاحتلال الفرنسي، وذلك بمواجهته على البحر في المرحلة الأولى ثم إرهاقه على الشاطئ، إلّا أنّ خطته تعارضت مع خطط قائد الجيش إبراهيم أغا الذي فضّل ترك الفرنسيين ينزلون إلى الشاطئ ثم مواجهتهم في البر في معركتي سيدي فرج وسطاوالي.
مع ذلك، كان أحمد باي وجنوده من المشاركين في حملات الصدّ المبكرة للعثمانيين للاحتلال الفرنسي، هذه الحملات انتهت باستسلام الداي حسين في 5 يوليو/تموز، وبذلك سقطت العاصمة الجزائر في يد الفرنسيين.
بعد تلك الانتكاسة، غادر الداي حسين وحاشيته إلى إسطنبول وفقاً لوثيقة الاستسلام، بينما فضّل الحاج أحمد باي العودة إلى قسنطينة من أجل حمايتها من الغزو.
وبذلك كان أحمد باي آخر الحكام العثمانيين الذين قاوموا الغزو الفرنسي، فقد نجح في الحفاظ على عاصمته حتى نهاية عام 1837، ولم يعلن استسلامه إلا بعد عشر سنوات بعد ذلك.
من هو الحاج أحمد باي؟
وفقاً لـ "مذكرات أحمد باي"، ولد أحمد بن محمد الشريف بن أحمد القلي المعروف باسم "الحاج أحمد باي" حوالي سنة 1784 بمدينة قسنطينة من أصل كرغلي؛ إذ كان أبوه من أصلٍ عثماني وأحد حكام قسنطينة، أمّا أمّه جزائرية فكانت الحاجة شريفة التي يعود نسبها لعائلة ابن قانة والتي تشتهر بين عرب الصحراء بمالها وجاهها ومشايخها الكبار، ولكون والده توفي وهو صغير، كان ينسب أحمد باي دائماً إلى أمه التي انتقلت به إلى عائلتها في الصحراء، أين كان يسمى أحمد باي بن الشريفة.
ومنذ صغره، تدرّب أحمد باي على الفروسية والقتال، كما تلقى تعليماً إسلامياً فحفظ القرآن وسافر إلى الحج وهو شاب، وعرف بحزمِهِ وذكائه وقوة شخصيته، الأمر الذي جعله يترقى سريعاً في المناصب السياسية من أميرٍ للفرسان إلى مساعدٍ للباي.
في سنة 1826، تم تعيين الباي أحمد باياً على بايلك قسنطينة، هذه المقاطعة التي عرفت بالاضطرابات الإدارية وعدم الاستقرار. بمجرد تسلمه لمهامه عمل على إرجاع المقاطعة إلى وضعها الطبيعي، عن طريق قيامه بإصلاحات، فكسب قلوب سكان قسنطينة؛ ما أدى فيما بعد بسكان هذه المدينة بعد احتلال مدينة الجزائر العاصمة أن يصروا على ضرورة بقاء الحاج أحمد باي بالمدينة ليدافعوا معاً عنها، هذا ما جعله يعلن الجهاد ضد فرنسا وينطلق في مقاومة شعبية رسمية عنيفة ضد المستعمر الفرنسي.
آخر حكام الجزائر العثمانيين
بعد سقوط مدينة الجزائر، توجه أحمد باي مع جيشه إلى عاصمته في قسنطينة، وبدأ منها مقاومته للغزو الفرنسي.
في البداية، قام أحمد باي بإعادة تنظيم صفوفه من خلال التحالف مع القبائل العربية والأسر العريقة من أجل تحصين عاصمته قسنطينة، من خلال بناء الخنادق والثكنات، وتشكيل جيش نظامي لصد الغزو، ثم سرعان ما أعاد تنظيم السلطة العثمانية التي كانت تعيش فراغاً بسبب استسلام الداي حسين ورحيله عن الجزائر، فقام بإعلان نفسه باشا خلفاً للداي حسين، ثم ضرب السكة باسمه وباسم السلطان العثماني، وافتتح قصره الشهير الذي لا يزال قائماً إلى اليوم.
في سنة 1836، أطلقت القوات الفرنسية حملتها لاحتلال مدينة قسنطينة، وهنا كان الباي أحمد في أوّل مواجهة مباشرة مع الفرنسيين منذ معارك سيدي فرج سطاوالي، وهي الحملة التي نجح أحمد باي في إفشالها وتكبيد الفرنسيين خلالها خسائر فادحة، وفقاً لمذكرة جامعية بعنوان "مقاومة الحاج أحمد باي للاستعمار الفرنسي".
تزامنت مقاومة الباي أحمد مع الثورة الشعبية التي قادها الأمير عبد القادر والتي شهدها الغرب الجزائري، خلال تلك الفترة كانت القوات الفرنسية تتلقى الضربات شرقاً من أحمد باي وغرباً من الأمير عبد القادر، وكانت مسألة طردها من الجزائر مع شراسة هاتين المقاومتين لا تعدو أن تكون مسألة وقت حسب المؤرخين.
لكن الهدنة التي وقعتها السلطات الفرنسية مع الأمير عبد القادر في التافنة سنة 1837، كانت المرحلة الحاسمة في نجاح الفرنسيين في إفشال مقاومة الباي أحمد.
فقد استغل الجيش الفرنسي معاهدته مع جيش الأمير عبد القادر في الاستفراد بمقاومة أحمد باي، وشن حملة جديدة أكثر قوة على مدينة قسنطينة سنة 1837.
وبنفس التخطيط والاستراتيجية التي وضعها في إفشال الحملة الفرنسية الأولى على قسنطينة، وضع الباي أحمد خطته لصد الحملة الثانية.
خلال هذه الحملة، سار الحاكم العام الفرنسي للجزائر الجنرال دامريمون بجيشٍ قوامه 20 ألف جندي معظمهم من فيالق الزواف وهي فرقة عسكرية جزائرية تعاونت مع الجيش الفرنسي.
وفي يوم 5 أكتوبر/تشرين الأوّل 1837 وصلت الحملة الفرنسية إلى قسنطينة وقامت بحصارها، ثم أمطرت القوات الفرنسية أسوار المدينة بالقنابل، مركزين على أجزاء من الأسوار الجنوبية الغربية التي تعرّضت للخيانة من قبل بعض أعيان المدينة لتسقط قسنطينة عاصمة الباي أحمد في 13 أكتوبر/تشرين الأوّل 1837.
استمر أحمد باي في المقاومة عشرة سنوات بعد سقوط قسنطينة
رغم سقوط عاصمته، أبى الباي أحمد الاستسلام، فخرج من المدينة إلى ضواحيها، وشرع في اتصالاته مع السلطات العثمانية من أجل إمداده بمساعدات عسكرية من أجل استعادة عاصمته، لكن ذلك الدعم لم يكن سوى مجرد وعودٍ لم تحقق.
ثم سرعان ما شرع الباي أحمد في مواجهة خصومه، فانتصر على القايد فرحات بن سعيد.
بعدها تركزت تحركات الباي أحمد وجنوده على المناطق الشرقية الجنوبية؛ حيث اعتمد على حرب العصابات، فكان يتنقل من قبيلة إلى أخرى، ومن الجبل إلى الصحراء، في كل من بسكرة، عين البيضاء، النمامشة، الأوراس وباتنة، محاولاً تعبئة القبائل لمواصلة الجهاد ومهاجماً المراكز العسكرية الفرنسية إلى غاية صيف 1848.
وفقاً لكتاب "الجزائر منطلقات وآفاق" للمؤرخ الجزائري ناصر الدين سعيدوني، وبعد أن تحوّل أحمد باي إلى كابوسٍ للقوات الفرنسية وعملائها، عزمت على إلقاء القبض عليه من خلال إطلاقها حملة عسكرية كبيرة في جبل أحمر خدور المعقل الأخير الذي بقي لأحمد باي.
وبعد محاصرته، اضطر الباي أحمد الذي كان حينها شيخاً طاعناً في السن ومريضاً إلى التفاوض مع الفرنسيين من أجل الاستسلام بعد 18 سنة من المقاومة العسكرية للاحتلال الفرنسي، ليتمّ وضعه تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته سنة 1851، ليتم دفنه في زاوية ضريح الشيخ سيدي عبد الرحمن الثعالبي.