واجه الاحتلال الفرنسي للجزائر، الذي بدأ في 5 يوليو/تموز 1830، العديد من المقاومات والانتفاضات الشعبية، التي كانت تندلع في كل قُطر من الجزائر، فما إن انطفأت شعلة ثورة حتى تندلع أخرى، فقد كانت المقاومات الشعبية الطابع الذي مثّل رفض الجزائريين للاحتلال الفرنسي حتى استكمال هذا الاحتلال في سنة 1911، حين وصلت القوات الفرنسية إلى مدينة جانت، بأقصى الجنوب الشرقي للجزائر.
كانت مقاومة الشيخ الحداد والمقراني واحدة من المحطات المهمة في تاريخ الثورات الشعبية بالجزائر، فخلال هذه الثورة التي شهدها الشرق الجزائري كان لدى الجزائريين السطوة الأقوى في المعارك، حيث فرض الثوار الجزائريون الحصار على القوات الفرنسية في العديد من المدن والقلاع، وكبّدوا المستعمر خسائر فادحة.
فبعد أن توطدت علاقة الرجلين، المقراني والشيخ الحداد، اتفقا في فبراير/شباط 1871 على القيام بثورة شاملة ضد المحتلّ الفرنسي، وبعد شهرين قامت هذه الثورة، بعد أن وصل عدد المشاركين فيها 200 ألف مقاتل، أغلبهم من أتباع الطريقة الرحمانية التي قادها الشيخ الحداد.
لم يُكتب لهذه الثورة أن تستمرّ طويلاً، فبعد شهرين من اندلاعها توقفت، بعد استشهاد قائدها الأول الشيخ محمد المقراني، واعتقال قائدها الثاني الشيخ الحداد، الذي لم يلبث أن استشهد هو الآخر بعد 10 أيام من الاعتقال.
محمد أمزيان الحداد.. شيخ الطريقة الرحمانية الذي انتفض ضد الاحتلال الفرنسي وهو في سن الـ80
ولد الشيخ محمد أمزيان بن علي الحداد، في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1789، لعائلة امتهنت حرفة الحدادة، كان أبوه شيخاً للطريقة الرحمانية في منطقة صدوق العليا، بولاية بجاية، والتي أسَّسها الشيخ "محمد بن عبد الرحمن الأزهري الجزائري الخلوتي"، الذي عاش ربع قرن من عُمره بين أروقة الأزهر الشريف في مصر، وتأثَّر من شيوخه المصريين بالطريقة الخلوتية الصوفية، وعاد إلى بلاده فنشرها، وأصبح لها عشرات الآلاف من الأتباع والمريدين.
بحسب المؤرخ مبارك الميلي، في كتابه "تاريخ الجزائر في القديم والحديث"، كان الشيخ الحداد محبباً إلى والده، فقام بتعليمه القرآن منذ صغره، ثم سرعان ما جعله خليفةً له في إدارة الطريقة الرحمانية، فعاش الشيخ حداد معظم حياته شيخاً لهذه الطريقة الصوفية التي انتشرت بشكلٍ كبير بين الجزائريين، وصار لها وزنٌ قَبلي وسياسي.
بعد زواجه من إحدى بنات قريته أصبح للشيخ الحداد ولدان، هما عزيز ومحمد، اللذان نشّأهما نشأةً إسلامية، كما أنّه طلب منهما المشاركة في الثورات الشعبية التي اندلعت بعد الاحتلال الفرنسي، فكان ابنه محمد من المشاركين في ثورة الشريف بوبغلة، التي اندلعت في خمسينيات القرن الـ19، أمّا ابنه عزيز فكان أحد المنتفضين في وجه الفرنسيين في ولاية سطيف.
كما دخل الشيخ الحداد في الفترات الأولى لوصول الاحتلال الفرنسي إلى منطقة زواوة مع الباشاغا علي شلاطة، الذي كان يمثّل السلطات الفرنسية في تلك المنطقة، مع ذلك لم يبرز التوجه العسكري للشيخ الحداد وأبنائه وعموم مريدي الطريقة الرحمانية سوى بعد إعلان الشيخ محمد المقراني ثورته سنة 1971.
فبعد أن أعلن المقراني ثورته على الفرنسيين توجه إلى منطقة صدوق العليا، والتقى بالشيخ الحداد، طالباً منه الانضمام إلى ثورته، وبالفعل ورغم كبر سنه الذي جاوز الـ80 سنة، قبِل الحداد الانضمام إلى ثورة المقراني، وقدَّم ولديه محمد وعزيز قادة للمقراني، وطالب الإخوان الرحمانيين بالمشاركة في الثورة، بحسب ما ورد في كتاب "مظاهر المقاومة الجزائرية" للمؤرخ الطيب العلوي.
تحالف الشيخ الحداد مع ثورة المقراني
بعد زيارة المقراني إلى الحداد في منطقة صدوق العليا، وكان ذلك في يوم السبت، الذي كان يوم السوق الأسبوعي، توجه الرجلان إلى عامة الشعب بخطابٍ لإعلان النفير العام ضدّ المستعمر الفرنسي، قال فيه أحدهما "سوف نلقي بالفرنسيين في البحر مثلما ألقيت بعكازتي هذه على الأرض".
ومنذ تلك اللحظة، شهدت مقاومة المقراني تصعيداً كبيراً، فقد انضمّ أكثر من 120 مقاتلاً من أتباع الطريقة الرحمانية إلى المقراني، الذي كان يمتلك 10 آلاف مقاتل، وتمكنت هذه المقاومة التي كان الشيخ الحداد يمثّل السند الشعبي والديني لها، من فرض واقعٍ جديدٍ على الفرنسيين، فقد تمكن المجاهدون الجزائريون من حصار مدينة برج بوعريريج، وإخراجها من سيطرة الفرنسيين لأكثر من شهر، كما فرضوا الحصار على مدن البويرة ومناطق واسعة من الشرق الجزائري.
استشهاد المقراني والحداد يُنهي الثورة
شكّل استشهاد محمد المقراني، الذي تعرّض للغدر، ضربةً قاصمة لهذه الثورة، فبعد محاولات المقراني السيطرة على مدينة البويرة، ترصَّده عناصر "الزواف"، وهم جزائريون جنَّدتهم فرنسا في مستهلّ احتلالها للجزائر، فجعلت منهم مقاتلين وجواسيس، وتتبَّعوا خطواته ومكامنه، وعندما تنحّى مع عدد قليل من رجالاته ليصلي الظهر، يوم 5 مايو/أيار 1871، عاجله هؤلاء الخونة بالرصاص فأردوه شهيداً.
طلب الشيخ الحداد من أبنائه الانتقام لمقتل المقراني، فقام الأخوان بوعزيز الحداد ومحمد الحداد، بتوجيه هجمات ضدّ القبائل التي غدرت المقراني في مناطق بجاية وتيزي وزو، وحتى تخوم الجزائر العاصمة في الشمال.
بعدها دخل أتباع الطريقة الرحمانية في معارك طويلة ضد الجنرال سوسي، الذي عيّنته السلطات الفرنسية لإخماد هذه الثورة، كانت أبرزها معركة جبل "منتانو"، التي دمَّروا فيها كل مراكز الأوروبيين والمتعاونين معهم.
وفي 24 يونيو/حزيران 1871، قامت معركة فاصلة ضد الجنرال سوسي في "تلة إيفاسن"، التابعة لولاية سطيف، وهي المعركة التي شهدت اعتقال الحداد وأبنائه.
استشهد الشيخ الحداد بسجن كودية بقسنطينة، حيث حُكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات، قضى منها عشرة أيام فقط، قبل أن توافيه المنية، في وقتٍ قامت فيه السلطات الفرنسية بنفي أبنائه وأتباعه من المشاركين في الثورة إلى كاليدونيا الجديدة.
وبعد نهاية ثورة المقراني والحداد، انتفض الجزائريون في ثورة الشيخ بوعمامة، وثورة أولاد سيدي الشيخ، وفيما بعد ثورة الطوارق مع نهاية القرن الـ19.