تمتلك مدينة كهرمان مرعش في جنوب وسط الأناضول واحدة من أكثر القصص الثورية الملهمة في تاريخ مقاومة الأتراك للوجود الفرنسي الغاصب، الذي امتد لفترة وجيزة في تاريخ البلاد.
تكمن القصة بشكل رئيسي في بائع لبن بسيط كان السبب في اندلاع الثورة، فأصبح رمزاً ثورياً وأسطورة خالدة، حتى بات اسمه "سوتشو إمام" مصدر إلهام وراء أشهر تمثال في المدينة، وأكبر جامعاتها للدراسات العليا التي سُميت تيمناً به.
خسائر الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى
بعد وفاة السلطان محمد رشاد في 3 يوليو/تموز 1918، تولى خلفه محمد وحيد الدين السلطان الأخير من سلاطين العثمانيين، وحكم في الفترة من 1918 حتى عام 1922، تزامناً مع خسارة الحرب العالمية الأولى.
ففي أعقاب الحرب، وما نتج عنها من هزيمة لـ"قوات المحور" التي كانت الدولة العثمانية تشكّل جزءاً منها إلى جانب الإمبراطورية الألمانية وحلفائها، أجبرت "دول الحلفاء" الحكومة العثمانية على القبول بتوقيع هدنة موندروس في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1918، التي أنهت الصراع العسكري بين الطرفين، ومهدت الطريق أمام الاحتلال الغربي للأراضي التركية.
وطبقاً لاتفاقية موندروس الموقَّعة بين العثمانيين والإنجليز؛ فإن القوات البريطانية المؤلَّفة من 4 آلاف جندي من مستعمرات الهند تمكَّنت من احتلال أضنة والمناطق المحيطة بها جنوبي تركيا.
وفي تقرير بموقع الجزيرة.نت، فإن القوات الإنجليزية بحجة حماية وجودها في هذه المناطق توسَّعت شمالي وشرقي البلاد، واستطاعت احتلال مدينة كهرمان مرعش في فبراير/شباط 1919.
لكن بسبب اتفاقية سايكس/بيكو التي حدَّدت مناطق السيطرة والنفوذ والأراضي العثمانية المقسَّمة بين الإنجليز والفرنسيين عام 1916، انسحب البريطانيون في أغسطس/آب من العام نفسه، وسلَّموا هذه المناطق إلى الفرنسيين.
بعد مواجهة المقاومة المحلية، سرعان ما انضم أرمن جنوب الأناضول إلى الاحتلال الفرنسي، فكوَّن الفرنسيون منهم قوات مسلحة مدربة للمساعدة والدعم.
في غضون ذلك، بدأت أعمال المقاومة المسلحة الشعبية التركية ضد تقدُّم القوات الفرنسية الأرمنية القادمة من نواحي عنتاب وأضنة إلى كهرمان مرعش، فكان مركز مدينة مرعش مقراً لأكثر الأحداث سخونة واضطراباً، وكانت السبب الأبرز في طرد الفرنسيين والأرمن خاسرين في نهاية المطاف بعد مقاومة شرسة لأسابيع.
البطل الرئيسي في هذه الأحداث هو الإمام "سوتشو"، وتعني بالعربية الإمام "بائع اللبن"، الذي عمل إماماً متطوعاً في مسجد بمدينة مرعش بلا راتب من الدولة، وفي الأوقات البينية بين الصلوات كان يبيع الألبان في دكان صغير أسفل الجامع.
من هو "سوتشو إمام"؟
ولد إمام في مدينة كهرمان مرعش عام 1871، وبعد بلوغه أصبح بائعاً للحليب في الحي الذي سكن فيه. وقد شاءت الأقدار أن يكون سوتشو إمام موجوداً في لحظة فارقة، ففي 31 أكتوبر/تشرين الثاني عام 1919، كان إمام يمارس روتين عمله عندما صادف جنديين، أحدها أرميني والآخر فرنسي، يعترضان طريق عدد من النساء التركيات أثناء خروجهن من "حمام"، وتعرضا لهن بالمضايقة والتحرُّش.
فقد حاول أحد الجنديين نزع نقاب إحدى السيدات وخلع حجابها قائلاً: "هذه الأرض أصبحت مستعمرة فرنسية ولا يمكنكن التجول بالحجاب هنا". وعندما حاول أحد الباعة التدخل للدفاع عنهن أطلق الجنديان عليه الرصاص وقتلاه في الحال.
المشهد الصادم أثار جلبة واسعة، وكان من بين من شاهدوا الموقف بائع الحليب "سوتشو إمام"، الذي لم يتمالك نفسه وأخرج سلاحه وأطلق النار على الجنديين مردياً أحدهما قتيلاً بينما أصاب الآخر، بحسب صحيفة ديلي صباح التركية.
لتصبح تلك الرصاصة شرارة اندلاع الثورة ضد المستعمر الفرنسي في المدينة. حيث تفاقمت الأحداث سريعاً، وهربت الدورية الفرنسية من مكان الحادثة، وأرسل قائد القوات الفرنسية يطلب مدداً من القوات المتمركزة في عنتاب وأضنة وغيرها.
الثورة المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي
بدأت المقاومة الشعبية والمسلحة تتصاعد بعد أن استطاع دخول القائد العام الفرنسي بقواته الصعود إلى قلعة مرعش وإنزال العلم التركي ورفع العلم الفرنسي في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1919، وهو ما تسبب في اندلاع أعمال مقاومة شعبية لاسترداد العلم التركي ورفعه من جديد.
وحينها، استخدم الاحتلال الفرنسي القوة في اعتقال السكان وكل المشاركين في واقعة مقتل الجندي على يد سوتشو إمام، وفي حادثة العلم، فوصلت الأخبار إلى تنظيمات الدفاع خارج مركز المدينة، وبدأت في التجهيز لدخولها. واستمرت الاشتباكات من شهر ديسمبر/كانون الأول حتى منتصف يناير/كانون الثاني عام 1920.
ويُعد أبرز حدث تاريخي وقع بتلك المدينة في العصر الحديث، هو معركة مرعش التي دارت رحاها في 13 فبراير/شباط 1920، بين القوات التركية والقوات الفرنسية، فكانت تلك المعركة من أولى المعارك الحقيقية في حرب الاستقلال التركية.
كانت معركة مرعش عبارة عن سلسلة من الحملات العسكرية التي شنتها الحركة الوطنية التركية، والتي قادت في نهاية المطاف إلى تشكيل تركيا الحديثة.
إذ دام الاشتباك في معركة مرعش ثلاثة أسابيع، أُجبرت بعده القوات الفرنسية على الانسحاب.
وتزامناً مع الاحتلال الغربي لأراضي الأناضول ورومالي والعاصمة إسطنبول، أشعل مصطفى كمال أتاتورك برفقة أصدقائه شرارة النضال التركي وحروب الاستقلال التي استمرت لقرابة 4 أعوام، من منتصف عام 1919 حتى انسحاب آخر جندي إنجليزي من إسطنبول في 4 أكتوبر/تشرين الأول 1923.
تكريم تاريخي للبطل المقاوم والمدينة الباسلة
ويشير تقرير لموقع TRT عربي إلى أنه بعد تحرير المدينة كوفئ سوتشو إمام وعُيّن في البلدية.
وعندما عيّن البرلمان التركي عبد المجيد سلطاناً، ذهب "سوتشو إمام" إلى القلعة لرمي 101 كرة من المدافع، حسب البروتوكول المعمول به وقتها، لكنه في أثناء ذلك أُصيبَ بحروق شديدة بعد حادثة اشتعال البارود، توُفّي على أثرها في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1922، ودُفن في مقبرة مسجد تشينارلي.
وبعد وفاته شيدت بلدية كهرمان مرعش عام 1936، في مكان الحادثة نفسه، نصباً تذكارياً تظهر فيه صورة امرأة محجبة، وجندي أجنبي يمسك بحجابها، والشيخ "سوتشو إمام" يقتله رمياً بالرصاص.
ومن هنا حصلت مدينة مرعش على اسمها "كهرمان مرعش"، والذي يعني "مرعش البطلة" أو "مرعش الشجاعة"؛ تكريماً لدورها في التخلص من الاحتلال الفرنسي، وتغير الاسم رسمياً عام 1973.
وإلى جانب عدد من الأماكن والميادين والشوارع التي تحمل اسمه، حوّلَت قيادة الأحكام العرفية قبر سوتشو إمام إلى ضريح عام 1980.