في 9 يوليو/تموز عام 1982، واجه قصر باكنغهام في العاصمة البريطانية لندن أحد أكبر الانتهاكات الأمنية في التاريخ الحديث.
فقد تمكن الشاب الثلاثيني مايكل فاغان، أخصائي طلاء وترميم المنازل العاطل عن العمل، من اقتحام المقر الملكي ودخول غرفة نوم الملكة إليزابيث الثانية؛ حيث يُعتقد أنه أجرى نقاشاً مقتضباً معها قبل وصول الأمن واقتياده لمقر الشرطة.
اقتحام غرفة الملكة وأكبر فضيحة في تاريخ بريطانيا
قصر باكنغهام ليس غريباً على الزوار؛ إذ يسير الآلاف من الأشخاص في قاعات المقر الملكي كل عام لحضور مناسبات الدولة وحفلات الاستقبال والجولات السياحية، إضافة لجيش الموظفين الذي يحافظ على عمل القصر ونظامه ونظافته، وبالطبع العائلة المالكة نفسها.
لذا كان يُعد اقتحام منزل ملكة بريطانيا، بل وحتى التسلل لغرفتها الخاصة أثناء نومها، عملاً فادحاً؛ ولهذا السبب عندما تمكن رجل من فعل ذلك بجهد ضئيل للغاية وقليل من التخطيط عام 1982، أدى ذلك إلى اندلاع إحدى أكبر الفضائح الأمنية في تاريخ بريطانيا الحديث.
من هو المعتدي المتطفل على القصر؟
ولد مايكل فاغان عام 1950 في مدينة كليرك نويل بلندن، وكان أكبر ثلاثة أطفال. التحق بمدرسة كومبتون ستريت حتى سن 16، عندما غادر المنزل. ومن هناك، حصل على وظيفة موظف طلاء ومصمم ديكور عمل بها على مر السنين.
وفي عام 1972 تزوج من كريستين لينجب منها أربعة أطفال.
وفقاً للشرطة، وقبل بلوغ الساعة السابعة صباح يوم 9 يوليو/تموز 1982، شق فاغان طريقه إلى القصر الملكي حيث تسلق سور باكنغهام بعد ليلة من الشرب والسكر، وشقّ طريقه صعوداً للغرف عبر أنبوب تصريف. وعلى السطح، نزع حذاءه وجواربه، ودخل المنزل الملكي من خلال نافذة غير مقفلة.
هناك، أمضى بعض الوقت يتجول في القصر، وتسبب في تشغيل نظام الإنذار مرتين بينما كان يطّلع على مجموعة طوابع الملك جورج الخامس.
وعلى افتراض أن التنبيهات كانت خللاً أو عطلاً غير مقصود، قامت الشرطة التي كانت تراقب القصر هذا الصباح بإيقاف أجهزة الإنذار مرة أخرى.
وفي تصريح لصحيفة The Sun البريطانية، قال مايكل فاغان إنه كسر إحدى منافض السجائر في القصر للحصول على قطعة من الزجاج لاستخدامها في قطع شبكة الحمام في الدور العلوي؛ مما أدى إلى جرح نفسه عن طريق الخطأ في هذه العملية.
في النهاية، شقّ فاغان طريقه إلى الجناح السكني للقصر لأفراد العائلة المالكة، وعلى ما يبدو، عن غير قصد، وصل بالفعل إلى غرفة نوم الملكة.
موقف صادم على فراش الملكة
كانت الملكة إليزابيث الثانية لا تزال نائمة على سريرها ذي الأربعة أعمدة في تمام الساعة 6:45 صباحاً. كان رقيب الشرطة طوال الليل الذي راقب الممر خارج غرفة نومها قد خرج عن العمل، كما هو مقرر في الساعة 6 صباحاً، وكان موظفو القصر قد بدأوا نوبات عملهم.
كان كل شيء حول القصر يسير وفقاً لخطته اليومية العادية؛ لدرجة أن أحداً لم يسمع جرس الإنذار الليلي الخاص بالملكة الذي دقته عدة مرات طلباً للخادمات، كما لم تسبب مكالمتها لمكتب المساعدين طلباً لإرسال الشرطة إلى غرفة نومها قلق أحد بسبب نبرة صوتها الهادئة التي لم توحِ بأي خطر.
ولكن في الواقع، قبل دقائق من اتصالها، كان رجل غريب يُدعى مايكل فاغان قد سحب ستائر غرفة الملكة بيد ملطخة بالدماء لكي يوقظها من النوم ويتحدث معها في أمور شخصية تتعلق بظروف حياته.
عدم استجابة
في تصريحاته لصحيفة The Sun البريطانية، يقول فاغان إن الملكة لم تكن تشعر بالفزع منه عندما رأته للمرة الأولى، بل كانت أقرب للصدمة بعد أن اعتدلت في فراشها، وهو الشعور الذي بادلها إياه وجعله يتسمّر في مكانه.
ويقول إن الملكة إليزابيث بعد أن نهضت من السرير، أخبرته "لحظة واحدة سأجلب شخصاً"، ثم اجتازته وخرجت من الغرفة.
بعد فترة وجيزة، تم استدعاء الحارس بول ويبرو، الذي اصطحب مايكل فاغان عبر ممر الملكة. وقال ويبرو في بيان تداولته وسائل الإعلام البريطانية في ذلك الوقت: "بدا الرجل متوتراً للغاية فقلت له: هل ترغب في تناول مشروب؟ وعلى الفور أصبح أكثر لطفاً وأجاب: "نعم من فضلك"، وتم القبض على فاغان بعد ذلك بوقت قصير واقتيد لقسم الشرطة.
نتيجة للحادث، الذي تسبب في فضيحة كبرى في نظر المواطنين البريطانيين، ورد أن وزير الداخلية البريطاني آنذاك ويليام وايتلو عرض على الملكة استقالته؛ ومع ذلك، فقد رفضت وتجاوزت الموقف.
حقيقة النقاش الذي دار بين مايكل فاغان والملكة إليزابيث
على مر السنين، قدم فاغان روايات مختلفة لأسباب اقتحام القصر في ذلك الصباح، وطبيعة النقاش الذي دار بينه وبين الملكة قبل أن يتم إلقاء القبض عليه.
وفقاً للرواية التي نشرتها صحيفة The Guardian البريطانية بعد الحادث مثلاً، فقد أخبر الرجل الشرطة في البداية أنه اقتحم القصر لمقابلة الملكة لأنه كان يحبها ويكنّ لها الاحترام، لكنه صرح في مناسبات أخرى منذ الحادث بأنه قابلها لمناقشة مشاكله الشخصية التي توقع أنها الشخص الوحيد القادر على التدخل لمساعدته فيها.
فقد عانى مايكل فاغان من البطالة لفترة طويلة تسببت في النهاية في انفصاله عن زوجته، وفقدان الحق في حضانة أطفاله، بحسب ما تداولته الصحف. الأمر الذي أثر على مستوى اتزانه النفسي والعقلي.
لكن بغض النظر عن دوافعه، يُعتقد أن فاغان استمد شجاعته في تلك الليلة من نجاح سابق في اختراق القصر؛ إذ لم تكن تلك هي المرة الأولى التي دخل فيها بشكل غير قانوني قصر باكنغهام.
فاغان اقتحم القصر الملكي أكثر من مرة!
قبل عدة أسابيع من اعتقال فاجان، كان الرجل قد اقتحم القصر بالفعل باستخدام طريقة مماثلة، وخرج دون أن يضبطه أحد.
إذ قال في مقابلة عام 2012 مع صحيفة The Independent البريطانية، إنه بينما كان يستكشف القصر، جرب العديد من العروش وقرر في النهاية المغادرة بعد أن شعر بالتيه في المكان الشاسع.
وبحسبه، فقد كان الخروج أصعب من الدخول للقصر؛ حيث وجد في النهاية باباً وخرج منه إلى الحدائق الخلفية ومنه إلى الطريق العام قفزاً من فوق الأسوار.
وبالرغم من الاقتحامين، اللذين وصل في أحدهما لحد الجلوس في فراش الملكة والحديث معها، بحسب روايته، لم يُتهم فاغان بالتعدي على ممتلكات الدولة أو الغير.
لأنه بموجب القانون البريطاني كانت الواقعة تُعتبر جريمة مدنية، وسيتطلب من الملكة توجيه التهم شخصياً بصفتها لكي يتم تقديمه للمحاكمة.
ومع ذلك، لم تكن هذه آخر مرة لفاغان أمام المحكمة؛ حيث أُدين في نهاية المطاف في أكتوبر/تشرين الأول عام 1982، وتم نقله إلى مستشفى للأمراض العقلية حيث أمضى 3 أشهر هناك للعلاج النفسي.
استمتاع متواضع بالشهرة
لاحقاً، وعلى مدى العقود التي أعقبت اقتحام قصر باكنغهام، كان فاغان يدخل ويخرج من دائرة الضوء من خلال المقابلات التلفزيونية والصحفية، فضلاً عن تورطه في المشاكل القانونية، بما في ذلك اعتقاله في قضايا جنائية من ضمنها السرقة والشروع في بيع الممنوعات.
وهو لا يزال يسكن في إحدى الشقق المتواضعة بقلب لندن، ويتمتع بالاهتمام الإعلامي بين الحين والآخر، آخرها كان تصريحاً له بعد وفاة إليزابيث الثانية قال فيه إنه شعر بالحزن لوفاتها، وأشعل شمعة من نافذته حداداً عليها.