تركت الكتائب السنغالية سمعةً سيئة لدى الجزائريين، بعدما ارتبط اسمها بالهمجية وعدم التفريق بين المدنيين والعسكريين، إضافةً إلى مساهمتها في تعذيب الثوار، خلال حرب التحرير الجزائرية.
والكتائب السنغالية لم تشارك فقط في حرب الجزائر، بل جنّدتها فرنسا واستغلتها في توسّعاتها الاستعمارية كذلك، وفي الحربين العالميتين، إضافةً إلى الحروب التحريرية في الهند الصينية ومدغشقر والجزائر.
كانت هذه الكتائب تتشكل من وحدات المشاة السنغاليين والأفارقة المجنّدين في الجيش الفرنسي الاستعماري، الذي كانوا في الأساس من الأسرى الذين جُنّدوا في السنغال، ثم في إفريقيا الغربية والشرقية والوسطى.
اختلط تاريخ الكتائب السنغالية بالبطولة والبسالة، كما بالظلم والهمجية. ورغم أن التجنيد خلال الاستعمار الفرنسي لم يكن محصوراً بالسنغال فقط، فإن وحدات المشاة هذه اتخذت صفة "السنغالية" لأن السنغال كانت أول بلدٍ يتشكل فيها فيلقاً من الأفارقة "السود".
تشكلت أول كتيبة سنغالية في القرن التاسع عشر، وقد خدمت فرنسا في حروبٍ عدة، بما فيها الحرب العالمية الأولى بمشاركة ما يقارب 200 ألف جندي، أكثر من 135 ألفاً قاتل في أوروبا.
تأسست بمرسومٍ إمبراطوري من نابليون الثالث
في يوليو/تموز 1857، أُنشئت الكتائب السنغالية بمرسومٍ إمبراطوري في عهد الإمبراطور الفرنسي شارل لويس نابوليون بونابرت، المُلقب بـ"نابوليون الثالث".
وبحسب موقع وزارة الجيوش الفرنسية، فإنّ الكتيبة السنغالية الأولى لم تكن تضمّ جنوداً من السنغال فقط، بل كل ما كان يُعرف بـ"القوة السوداء"، أي الجنود الأفارقة ذوي البشرة السوداء الذين كانوا يحاربون من أجل فرنسا.
وقد أُطلق عليها هذا الإسم، لأن الكتيبة الأولى تأسست في السنغال وجاءت فكرة إنشائها من قِبل الحاكم الاستعماري الفرنسي للسنغال، لويس فيديرب.
ففي ظلّ نقص عدد الجنود القادمين من فرنسا إلى المستعمرات الفرنسية الجديدة بإفريقيا، قرر فيديرب تكوين وحدات مشاة من القوة العسكرية التابعة للجيش الفرنسي، من أجل تلبية احتياجات ضمان الأمن في تلك المستعمرات، بالإضافة إلى التوسع نحو أراضٍ جديدة.
وفي البداية، ضمّت الكتائب السنغالية أسرى الحرب و"العبيد" الذين كانت فرنسا تشتريهم من "أسيادهم" المحليّين.
وإلى جانبهم، ضمّت أيضاً متطوعين من مختلف البلدان الإفريقية التابعة للاستعمار الفرنسي، في غرب القارة السمراء ووسطها وشرقها، مثل: السنغال، ومالي، والنيجر، وفولتا العليا (بوركينا فاسو)، وكوت ديفوار، وتشاد، وكونغو برازافيل (جمهورية الكونغو حالياً).
ولجأت فرنسا فيما بعد، أي منذ العام 1905، إلى تجنيد السكان الأصليين لمستعمراتها بشكلٍ إجباري لمدة محددة، وخاصة في فترة الحروب الكبرى.
وفي البداية، كان يتم تجنيد ضباط الصف من المَشيخات المحلية؛ وقد كان عددهم قليلاً نسبياً، بمعدل ضابطٍ واحد لكلّ 30 جندياً.
يُعتبر السنغالي مامادو راسين، أول عسكري ذو بشرة سوداء يصل إلى رتبة "نقيب" في الجيش الاستعماري الفرنسي. حدث ذلك في سنة 1883، حين حارب راسين في صفوف الكتائب السنغالية من العام 1860 إلى 1895.
شاركت في إخماد الثورات الشعبية بالمغرب
شاركت الكتائب السنغالية في كل الحملات العسكرية الفرنسية لاستعمار مناطق جديدة في إفريقيا. ووفقاً لما جاء في تقريرٍ آخر نشره موقع وزارة الجيوش الفرنسية، فقد استعانت بـ150 جندي إفريقي في الحملة التي سُمّيت بـ"مهمة مارشون" بنهر النيل (جنوب السودان).
بدأت "مهمة مارشون" في العام 1896 واستمرت حتى 1897، لتحدي الهيمنة البريطانية في تلك المنطقة الاستراتيجية، وقد انتهت الحملة بالفشل بعدما حاصرتها القوات البريطانية.
كما شاركت الكتائب السنغالية أيضاً في إخماد الثورات الشعبية بمدغشقر بين عامَي 1895 و1905، وفي المغرب بين 1912 و1934.
ضحّت من أجل فرنسا في الحربَين العالميتين
شكلت الحرب العالمية الأولى نقطة تحوّلٍ في توظيف الكتائب السنغالية. ففي أعقاب النكسات التي تعرّض لها الجيش الفرنسي في العام 1914، تم إرسال الجنود الأفارقة للقتال على الجبهة الأوروبية ومساعدة القوات الفرنسية المتمركزة على طول الخط.
وقد وجدت فرنسا صعوبات كبيرة ومقاومة شديدة من أهالي مستعمراتها الإفريقية في تجنيدهم اجبارياً للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، ولكنها نجحت رغم ذلك بإرسال 200 ألف جندي من الكتائب السنغالية إلى الجبهة الأوروبية.
ساهمت الكتائب السنغالية بشكلٍ كبيرٍ في انتصار فرنسا، رفقة حلفائها، على دول المحور. وقد تمّ استغلال جنودها في الخطوط الأمامية لمختلف المعارك، ما جعلها تخسر 30 ألف جندي تم تكريمهم وتخليد "بطولاتهم" من قِبل الشعب الفرنسي خلال مناسباتٍ مختلفة.
لعلّ أشهرها ذلك النصب التذكاري الذي موّله سكان مدينة "ريمس"، معترفين بالبسالة والتضحيات التي قدّمها "الجيش الأسود" في سبيل الدفاع عن مدينتهم ضدّ غارات القوات الألمانية.
في الحرب العالمية الثانية، لجأت فرنسا إلى تجنيد شبابٍ من مختلف مستعمراتها الإفريقية. فلعبت الكتائب السنغالية دوراً أساسياً في تحرير الأراضي الفرنسية من قبضة ألمانيا النازية في العام 1944، وخاصة في المعركة الشهيرة المُسماة "إنزال لابوروفانس" التي جرت يوم 15 آب/أغسطس.
ووفقاً لعدة مراجع تاريخية، فقد بلغ عدد المُجنّدين الأفارقة في الحرب العالمية الثانية ما يُقارب 180 ألف عسكري، توفي منهم نحو 20 ألفاً خلال المعارك التي جرت في أوروبا، اضافةً إلى آلاف المفقودين والجرحى.
وفقاً للمؤرخ الألماني رافائيل شيك، الذي قام ببحوثٍ مختلفة في الأرشيف العسكري الفرنسي والألماني، فإنّ القوات النازية أعدمت 3 آلاف أسيرٍ من الكتائب السنغالية ما بين شهرَي مايو/أيار ويونيو/حزيران 1940.
وقد تطرق لقصة تلك الاعدامات في كتابٍ صدر عام 2007، تحت عنوان Une Saison Noir، أي "موسم أسود"، وأراد من خلاله كشف تلك الجرائم التي تعرض لها جنود الكتائب السنغالية من قِبل النازيين خلال الحرب العالمية الثانية.
لم يتحدث الرأي العام كثيراً عن هذه الجرائم حين حدوثها، كما لم تتم ملاحقة مرتكبيها أمام المحاكم بعد نهاية الحرب، ما يؤكد بشكلٍ جليّ -وفقاً لشيك- "العنصرية والتمييز العرقي اللذين كانا سائدين في أوروبا حتى في زمن الحرب".
معاناة نفسية وجسدية في حرب الجزائر
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، استغلت فرنسا الكتائب السنغالية في مختلف حروب الاستقلال التي شهدتها مستعمراتها، وبالخصوص في الهند الصينية (كمبوديا وفيتنام حالياً) عام 1945، ومدغشقر (1947)، إضافةً إلى الجزائر (1954).
وقد شارك 60 ألف جندي إفريقي في حرب الهند الصينية، ما يمثل 20% من مجموع القوات الفرنسية المتمركزة في تلك البلاد الواقعة بجنوب شرق آسيا.
وتزامنت نهاية الحرب الهند الصينية مع بداية حرب الجزائر، فتمّ نقل ما يُقارب 15 ألف جندي من الكتائب السنغالية من آسيا إلى شمال إفريقيا لدعم القوات الفرنسية في معاركها ضدّ جيش التحرير الجزائري.
وقد وصلت تلك القوات إلى الجزائر، قادمةً من الهند الصينية، فدخلت في حربٍ جديدة من دون أن يأخذ جنودها أي قسط من الراحة من الحرب السابقة.. ما أدخل الكثير منهم إلى المستشفيات، بسبب معاناتهم من اضطراباتٍ نفسية.
وزادت شراسة المعارك ضدّ المجاهدين الجزائريين من المعاناة النفسية والبدنية للجنود الأفارقة، خاصة في ظلّ نقص تجربتهم في خوض معارك "حرب العصابات" بالجبال والمدن، وصعوبة تمييزهم بين العسكريين والمدنيين.
كما واجه جنود الكتائب السنغالية حملة دعائية أو "توعوية" من طرف جيش التحرير الجزائري، الذي كان يوجّه إليهم رسائل عبر الراديو، يُذكرهم فيها بأنهم مُستعمرون من قِبل فرنسا وأنّ الكثير منهم يتبعون دين الإسلام، مثلهم مثل الكثير من الجزائريين.
لكن ورغم تأثر عددٍ غير قليل من الجنود الأفارقة بتلك الحملة، فإن الكتائب السنغالية تركت سمعة سيئة لدى الجزائريين، وقد ارتبط اسمها بالهمجية في حرب التحرير الجزائرية، لا سيما بعد مساهمتها في تعذيب الثوار.
وبعد أكثر من قرنٍ على تأسيسها، تمّ تحويل الكتائب السنغالية في سنة 1958 إلى فيالق من المشاة تابعة للبحرية الفرنسية، قبل حلّها نهائياً في العام 1962 مع استقلال معظم المستعمرات الفرنسية.
التذكير بتضحيات الكتائب السنغالية
في العام 2017، منح الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند الجنسية الفرنسية إلى 28 مقاتلاً سنغالياً، حاربوا مع الجيش الفرنسي من حرب 1870 ضدّ بروسيا إلى حرب الجزائر التي انتهت في 1962.
وقد جاء ذلك بعد معركة إدارية استمرت سنوات عدة، جعلت السنغاليون يعيشون في ظروفٍ اجتماعية صعبة. وفي كلمته، خلال تكريم هؤلاء الجنود، قال هولاند: "لقد احتاج الأمر إلى معركة طويلة حتى توافق فرنسا على إصلاح هذا الظلم". وأضاف: "أنتم تاريخ فرنسا، وهي مدينة لكم".
وفي يناير/كانون الثاني 2023، بدأ عرض فيلم Tirailleurs في صالات العرض الفرنسية والفرنسية، المبني على وقائع تاريخية حقيقية. ومنذ عرضه في مهرجان "كان" 2022، أثار الفيلم ضجة كبيرة حول العالم، لأنه يفضح الجرائم الاستعمارية تجاه الأفارقة التي حاولت فرنسا إخفاءها طوال قرنٍ من الزمن.
يتناول فيلم Tirailleurs قضية الجنود الأفارقة الذين جنّدتهم فرنسا وأجبرتهم على القتال من أجلها، والوقوف في صفوف جيشها الأولى خلال الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918). كما يوثق كيف تجاهلتهم لاحقاً رغم وعودها بتسديد مقابل محاربتهم في صفوفها، وتحملهم خسائر كبرى، لأنهم غالباً ما كانوا يوضعون في الصفوف الأمامية على الجبهات.
وقد ذكرت صحيفة The Guardian البريطانية أن الفيلم صدم من شاهده، لأنه يصوّر شباناً أفارقة جرى انتزاعهم عنوة من قراهم البعيدة -أواخر القرن التاسع عشر- ليشكلوا فيلقاً عسكرياً يحارب في صفوف الجيش الفرنسي.
وأضافت أن الفيلم ألقى الضوء على البطولات المنسية للمحاربين الأفارقة الذين جنّدتهم فرنسا من مستعمراتها، بهدف القتال معها -كدروعٍ بشرية- في الخطوط الأمامية خلال الحرب العالمية الأولى، في ظروفٍ بالغة السوء.
وكانت مشاركة الممثل الفرنسي -السنغالي الأصل- عُمر سي (Omar Sy) في بطولة وإنتاج الفيلم قد أعطت زخماً خاصاً في إبراز معاناة أجداده خلال هذه الحرب، وما واجهوه من تعنّتٍ فرنسي بعد ذلك في تسديد دين هؤلاء.
ويُمثل عمر دور رجلٍ في العقد الخامس من عمره، ينضم إلى الجيش الفرنسي، بحثاً عن ابنه البالغ 17 عاماً، والذي جنّده الفرنسيون قصراً وأرسلوه إلى خنادق معركة "فردان" على الجبهة الغربية لمقاتلة الجيش الألماني عام 1916.
عُمر سي أغضب الفرنسيين بعدما انتقد -في حوارٍ أجراه مع صحيفة Le Parisien– تناقض المواقف والآراء الغربية حيال النزاعات في أوروبا وإفريقيا، وتجاهل بلاده (فرنسا) ضحايا النزاعات في إفريقيا.
وقال سي إنه يأسف لأن الرأي العام الفرنسي، والغربي عموماً، "يعلن قلقه من الحرب في أوكرانيا ثم يتجاهل الحروب في إفريقيا". وأضاف: "هل يعني هذا أن ما يجرى في القارة السوداء يمسّ الفرنسيين بقدرٍ أقل"؟