قبل اكتشاف النفط في الخليج، اعتمد سكان الساحل العربي على الغوص في البحر واستخراج اللؤلؤ الطبيعي لتأمين معيشتهم، باعتباره المهنة الشعبية الأساسية التي يتّكل عليها الناس لكسب الرزق.
واستمرّ الغوص على اللؤلؤ باعتباره النشاط الاقتصادي الرئيسي في دول الخليج، حتى بدء أعمال الاستكشاف والتنقيب -واسعة النطاق- عن احتياطيات النفط في المنطقة.
منذ ما قبل الميلاد، بدأت هذه المهنة. لكنها برزت في القرن التاسع عشر، وحتى أواسط القرن العشرين، في الخليج وبلاد فارس. وكانت المهنةَ الركيزة الرئيسية التي يعتمد عليها اقتصاد نسبة كبيرة من المدن القريبة من البحر.
فكانت دول الخليج تبيع اللؤلؤ وتصدّره إلى دولٍ كبرى، مثل: بريطانيا، والهند، وفرنسا، وإيطاليا، وسائر أوروبا؛ إلى أن بدأت اليابان بإنتاج اللؤلؤ المستزرع.
حدث ذلك في العام 1930، عندما تلقت أسواق اللؤلؤ في الخليج الضربة القاضية. فإنتاج اللؤلؤ المستزرع كان يتمّ بتكلفة أقلّ بكثير، وبشكلٍ أسرع وإنتاجية أكبر.
وقد بدأ ذلك على يد ميكوموتو كويتشي، الأخ الأكبر لتسعة أطفال من أسرة متواضعة، عُرفت بإنتاج النودلز الصينية. استزرع كويتشي اللؤلؤ، ونُسبت إليه المقولة الشهيرة "أرغب في تزيين أعناق كلّ نساء العالم باللؤلؤ".
توقف استخراج اللؤلؤ في الخليج بسبب ميكوموتو الذي حاول، طوال فترة حياته، أن ينتج لؤلؤاً زراعياً. ونجح في تحقيق حلمه بعد أن زرع اللؤلؤ لمدة 15 عاماً من دون أي بادرة نجاح.
لكنه نجح أخيراً في أن يجد لؤلؤة نصف دائرية في التجربة رقم 2670، لتتوالى بعدها التجارب الناجحة، حتى استطاع إنتاج لآلئ كاملة بكمياتٍ كبيرة تصلح للتجارة بها. ومع الوقت أصبحت اليابان أكبر مصدّر للؤلؤ، لينتهي تاريخ الخليج في مهنة الغوص بحثاً عن اللؤلؤ.
وتؤكد بعض المصادر أنه لو لم يُكتشف النفط في وقتٍ لاحق قريب، لتعرّضت دول الخليج لتدهورٍ كبير في الاقتصاد والبيئة غير القابلة للزراعة.
في البداية، ما هي مهنة الغوص على اللؤلؤ؟
كان استخراج اللؤلؤ عن طريق الغوص نشاطاً موسمياً، يمتد على مدار أشهر الصيف الأربعة، حين تُبحر مجموعة قوارب خليجية -من موانئ المنامة، والدوحة، ودبي، وأبوظبي- متجهة إلى الضفاف الساحلية الغنية بالمحار.
لماذا؟ لأن حبات اللؤلؤ كانت تُستخرج من المحار القابع في أعماق البحار، ويُقال إن عملية الاستخراج كانت تستغرق مجهوداً ووقتاً كبيرَين. فقد كان الصيّادون يجدون لؤلؤة واحدة طبيعية في كل 100 محارة.
في كتابه "تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي"، يروي الكاتب سيف مرزوق الشملان كيف كان استخراج اللؤلؤ الحرفة الرئيسية للسكان على مدى ثلاثة قرونٍ خلت.
ويوثق المؤلف مهام القائمين على هذه المهنة وكيف يتحضرون لرحلة الغوص (الدشة) وهي المرحلة التي يجهز فيها البحار كافة أدواته، التي كانت بدائية بمعظمها؛ قبل أن تبدأ مرحلة الإبحار باتجاه "الهيرات"، أي أمكنة وجود المحار في البحر.
من أجل رحلة الاستخراج، كان يتمّ تخصيص 300 مركب شراعي يعمل عليها نحو 700 بحار، للإبحار والغوص بحثاً عن المحارات التي تحتوي على اللآلئ. ولم تكن المهمة سهلة قط، بل كان البحارة -وخلال الأشهر الأربعة- يواجهون أحيناً بعض المخاطر قبل الوصول إلى المحارات.
لكنهم رغم ذلك، تميّزوا بطرق صيدهم للآلئ، ومعرفتهم بكيفية الحصول عليها. لذلك كانت تُباع بأثمان مختلفة، بناءً على عوامل مختلفة أيضاً، أبرزها: ندرة اللون، وحجم اللؤلؤة.
مرّ الغوص على اللؤلؤ عبر أطوار ثلاثة:
- في الأول، كان يُطلق عليـه غوص الأفراد. وفي هذه المرحلة، كان العمل شاقاً ومرهقاً للغاية.
- في الطور الثاني، الذي سُمّي بـ"غوص المثلوث"، كان البحارة يغطسون 16 غطسة قبل الراحة.
- وفي الطور الثالث والأخير، وهو غوص "الأزوام"، يغطس قسم من الغواصين 16 غطسة، ثم يرتاحون في الغطسات الـ16 التالية، بالتناوب مع زملائهم الآخرين.
كانت مهنة الغوص على اللؤلؤ مرغوبة بشدة من قِبل السكان، لأن للغواص حصة الأسد عند توزيع الأرباح. ولكن ليصبح المرء غواصاً، عليه أن يتمتع بالكفاءة الجسدية والنفسية التي تسمح له بالغوص في أعماق البحار واستخراج اللؤلؤ.
كذلك، فإن مهنة الغوص ليست واحدة. تتعدد المهام، ولكل فرد من أفراد الطاقم الذي يخرج في رحلة الغوص مهمة محددة. فهناك أولاً ربان السفينة أو "النوخذه"، وتُعتبر من أهم الوظائف.
ثم هناك المقدمي أو "المجدمي"، وهو المسؤول عن إدارة العمل على ظهر القارب أو السفينة، ومن بعده يوجد الغيص الذي يغوص في البحر لجمع المحار قبل استخراج اللؤلؤ؛ وهنا يأتي دور السيب، الشخص الذي يسحب الغيص من قاع البحر.
وخلال الرحلات، يرافق هؤلاء على متن القوارب أو السفن كلّ من: الرضيف، أي الصبيان الذين يقومون بالأعمال الخفيفة، والنهام أي المغني الذي غالباً ما يجب أن يتمتع بصوتٍ جميل حتى يكون تأثيره جيداً على البحارة، فيستمرون في العمل رغم التعب.
ودور النهام لا يقتصر على إضفاء البهجة فقط؛ فصحيحٌ أنه يتبادل الغناء مع رفاق الرحلة، لكنه يشارك أحياناً في العمل بنفسه أيضاً وله حصة من الربح. وفي الإمارات، وعُمان، يُطلق عليه اسم "الشيلات".
تراجع استخراج اللؤلؤ في الخليج لصالح اليابان
شهدت صناعة اللؤلؤ في المنطقة تراجعاً تدريجياً، منذ سقوط وول ستريت في نيويورك فيما عُرف بـ"الثلاثاء الأسود"، حين تجاوزت الخسائر ما صرفه العالم في الحرب العالمية الأولى.
فقد شهد العالم من بعد هذا السقوط كساداً استمرّ لسنوات عدة، وأثّر على مختلف الصناعات، ومن بينها اللؤلؤ الذي بدأت تنخفض أسعاره سريعاً، بسبب تراجع الطلب عليه أولاً.
لكن أسواق اللؤلؤ تلقت الضربة القاضية في العام 1930، مع بدء اليابان إنتاج اللؤلؤ الزراعي، على يد ميكوموتو كويتشي. فأصبح اللؤلؤ المزروع (الصناعي) أكثر وفرة، وأرخص بكثير من ذلك المُستخرج في الخليج.
فتراجعت مهنة الغوص على اللؤلؤ في الخليج، حتى اندثرت الصناعة كلياً تقريباً في مطلع ستينيات القرن الماضي. وقد ترافق ذلك مع نمو مرافق إنتاج النفط في جميع أنحاء المنطقة، وتعدد مصادر الدخل لدى تلك الدول، وارتفاع مستوى المعيشة فيها.
تُعتبر الإمارات العربية المتحدة من أهم بلاد الخليج العربي التي برعت في استخراج اللؤلؤ، وقد اشتهرت بمهارة بحاريها في الغوص على اللؤلؤ، ومن ثُم تصديره إلى البلاد الأوروبية على وجه الخصوص.
لكن مدينة المحرق في البحرين اشتهرت بأنها عاصمة اللؤلؤ؛ لكون اقتصادها بُني على استخراج اللؤلؤ، كما أنها أكثر مدينة احتوت على أكبر عدد من صائدي اللآلئ. وقد تصدرت هذه المهنة ما يقارب ثلاثة أرباع إجمالي صادرات دولة البحرين في القرن التاسع عشر، إلى مومباي الهندية والسلطنة العثمانية.
ووفقاً لدراسةٍ أعدّها روبرت كارتر، باحث في علم آثار الشرق الأدنى بجامعة أكسفورد، عن تاريخ اللؤلؤ في الخليج؛ فقد عُثر على مخطوطة آشورية تعود إلى القرن التاسع عشر، تُشير بين دلالاتها إلى لآلئ البحرين.
وبعد البحرين، يمكن القول إن قطر كانت تُعتبر أيضاً مركز استخراج اللؤلؤ. ويضمّ متحف قطر الوطني اليوم إحدى النوادر الفنية والتاريخية، وهي سجادة بارودا المرصعة بمليون ونصف المليون حبة لؤلؤ طبيعي مُستخرجة من الخليج.
وقد صُنعت هذه التحفة بطلب من المهراجا الهندي الذي اعتنق الإسلام غيكوار خاند راو، حاكم ولاية بارودا عام 1865، لتكون غطاءً لقبر الرسول في المدينة المنورة. ويُمكن القول إنها إحدى أروع القطع الفنية التي صُنعت من اللؤلؤ الخليجي.
من هو ميكوموتو كويتشي، ملك اللؤلؤ؟
وُلد ميكوموتو كويتشي عام 1858 في توبا، بمقاطعة شيما اليابانية. وعلى غرار والده، عمل في بيع النودلز، فكان يمضي نهاره في جرّ عربة النودلز بهدف بيعه.
عندما وصل الى عمر الثامنة عشرة، اتجه للعمل بالصيد ثم الغوص على اللؤلؤ. وسرعان ما أثارت الأصداف واللآلئ الثمينة شغف ميكوموتو الذي ترك المدرسة وهو في الـ13 من عمره.
تساءل ميكوموتو عن سبب وجود اللؤلؤ في بعض الأصداف دون غيرها وسبب ندرة الأصداف التي تحتضن اللؤلؤ مقارنة بالأصداف الفارغة. وبعدما التقى عدداً كبيراً من علماء الأحياء، بسبب عمله، اقترح عليه أحد العلماء طريقة يمكن من خلالها تحفيز المحار بشكلٍ صناعي لإنتاج اللآلئ.
كانت هذه المعلومات كفيلة لإثارة مخيلة ميكوموتو كويتشي؛ وسرعان ما تساءل: "ماذا لو قمنا بإدخال عناصر غريبة إلى المحار بأيدينا؟". وبحسب موقع دار ميكوموتو، فمن هنا تولدت فكرة اللؤلؤ الزراعي، أو اللؤلؤ المستزرع، (Cultured Pearls).
على مدى 15 عاماً، جرّب ميكيموتو تلك الطريقة قبل أن يتمكن -بعد التجربة رقم 2670- من إنتاج أول نصف لؤلؤة. كان ذلك في العام 1917، قبل أن يصبح قادراً على إنتاج لؤلؤة كاملة تشبه كثيراً اللؤلؤة العادية.
كان ذلك في 28 سبتمبر/أيلول 1893، الذي سيصبح لاحقاً يوماً للاحتفال باللؤلؤ المزروع ويُمنح فيه العاملون في متاجر ميكوموتو ومصنع الدار إجازة.
لم تتوقف التجربة هنا، فقد كانت اللؤلؤة المزروعة غير مثالية، لأنها نصف كروية. واستمر ميكوموتو في تجاربه 10 سنوات أخرى حتى استطاع الوصول إلى سرّ اللآلئ الكروية.
هكذا بدأت إمبراطورية ميكوموتو الذي انضمّ إلى أشهر المخترعين حول العالم، واستحق عن جدارةٍ لقب ملك اللؤلؤ، وأصبح يمتلك جزيرة كاملة لزراعة اللؤلؤ يعمل فيها نحو 100 ألف عامل؛ واستطاع التحكم في شكل ولون وحجم اللؤلؤ، وعدد اللآلئ في المحارة الواحدة!
وبذلك الاختراع، وضع ميكوموتو كويتشي اليابان في مقدّمة الدول المنتجة للؤلؤ وسحب البساط من دول الخليج وبلاد فارس التي اشتهرت بتصديره، مما ساهم في الدخل القومي لليابان.
ولذلك، أقامت اليابان تمثالاً لميكوموتو كويتشي، كنوعٍ من التكريم له ولاكتشافه الذي ساهم في ازدهار الاقتصاد الياباني بشكلٍ أساسي.