إذا كانت الطاقة هي الأكثر تأثيراً في سياسات القرن الـ21، فيمكن القول إن الأفيون لعب دوراً مشابهاً في التأثير على سياسات الدول المهيمنة على العالم خلال القرن الـ18 وجزء من القرن الـ19، إذ كان الأفيون "الدواء" الأكثر شيوعاً في قارتَي آسيا وأوروبا، كما كان من بين الأعمال التجارية الأكثر تحقيقاً للأرباح.
ويُعرف الافيون منذ آلاف السنين بأنه مخففٌ للآلام وقد تم تسجيل استخدامه للتسكين الجراحي لعدة قرون، ويعتبر لوح الطين السومري الذي يزيد عمره عن حوالي 2100 قبل الميلاد، أقدم قائمة مسجلة للوصفات الطبية في العالم التي احتوت على الأفيون باعتباره مُسكناً للألم، كما استخدم الأطباء المسلمون الأوائل الأفيون في علاجاتهم للمرضى، كما أوصى به العالم الشهير ابن سينا خاصةً في حالات الإسهال وأمراض العين، قبل أن يجد طريقاً له إلى أوروبا ويصبح الدواء الأشهر في القرن الـ18.
الأفيون دواء الأوروبيين خلال القرن الـ18
استهلاك الأفيون في القارة الأوروبية معروف منذ العصور القديمة، ومع ذلك لم يصبح بالشهرة الكبيرة بين الأوروبيين إلّا مع نهاية العصور الوسطى.
بدءاً من القرن الـ16، شهد استهلاك الأفيون انتشاراً عالمياً بفضل الشبكة التجارية التي كانت تنشط بين جميع قارات العالم وتنقل البضائع بين الدول، حينها كان خشخاش الأفيون يُزرع في تركيا، حيث كان يُستهلك بكميات كبيرة كبديل للنبيذ ومستحضرات أخرى، كما تمّ بدء تكوين خلطات علاجية منه مثل لودانوم، والذي اكتسب شهرة كبيرة كدواء قادر على علاج كل شيء.
في هذا السياق، كتب جون جونز، وهو طبيب من الـ17، عن فوائد الأفيون: "غالباً ما يزيل الأفيون الألم من خلال الإلهاء والاسترخاء الناجمين عن المتعة فهو يمنع ويزيل الحزن والخوف والكرب وسوء المزاج والقلق، كما جعل ملايين المستهلكين أكثر هدوءاً وفي نفس الوقت مناسب لإدارة أعمالهم".
كان الأفيون حينها يستعمل في علاج كل الأمراض خلال ذلك العصر، من نزلات البرد إلى الجدري، ومع ذلك كانت عواقب الأفيون معروفة أيضاً عند الاستخدام غير الحكيم له.
حتى القرن الـ18، كانت وصفات الأفيون موجهة في الغالب إلى الطبقات العليا في المجتمع الأوروبي، بحيث كانت الوصفات التي تحتوي على الأفيون باهظة الثمن، وهو ما جعلها حصراً على الطبقة الأرستقراطية.
ومن بين المرضى الذين عالجوا أمراضهم بالأفيون نجد كلاً من ملك إنجلترا تشارلز الثاني وملك فرنسا لويس الرابع عشر، إضافةً إلى الكاردينال ريشيليو والرسّام التشكيلي فرانشيسكو غويا.
الأفيون تحوّل من دواء إلى إدمان
لكن مع وصول الأفيون إلى أوروبا بكميات كبيرة، تسبّب ذلك في انخفاض سعره وأصبح منتجاً في متناول جميع الفئات، مما أدى إلى نمو استهلاكه إلى أعلى المستويات.
في البداية استخدم الأفيون بين الأوروبيين على نطاق واسع كمسكن للألم في القرن الـ18، قبل أن تحوّل الأفيون إلى إدمان.
كان الأفيون واللودانوم والباريغوريك من المكونات النشطة في العديد من الأدوية التي حصلت على براءات الاختراع، وكانت هذه الأدوية متاحة مجاناً دون قيود قانونية أو طبية للأوروبيين؛ ممّا ساهم في بروز مشكلة إدمان الأفيون على السطح.
كانت حالات الإدمان المنتشرة والمتزايدة بدأت تثير قلقاً اجتماعياً في أوروبا، أدى ذلك إلى حظر المورفين المنتج من الأفيون لأول مرة حوالي عام 1804، ولكن تم اختراع حقنة المورفين التي تحقن تحت الجلد في منتصف القرن الـ19، وهو الأمر الذي ضاعف من عدد المدمنين، بحسب الموسوعة البريطانية.
في العام 1874، تم إنشاء جمعية في أوروبا من أجل قمع تجارة الأفيون خصيصاً بعد تورط بريطانيا في تجارة الأفيون إلى الصين، ساهمت تلك الجمعية في توحيد الأصوات التي تصف الأفيون بكونه يسبّب الإدمان.
أدت المخاوف المتنامية والتي غذتها الحروب التي شهدتها أوروبا من أن يسهم الأفيون في فساد العسكريين، لذلك قامت معظم الدول الأوروبية إلى اعتبار الأفيون من الأدوية الخطرة، وأصدر قانون الأدوية الخطرة في عام 1920، الذي حظر الأفيون ومشتقاته من الإستعمال الطبي.
الأفيون يتسبب في حرب بين بريطانيا والصين
تُستخرج مادة الأفيون من عصارة نبات يُعرف باسم خشخاش الأفيون، كانت الثقافات الكلاسيكية تحتوي بالفعل على الأفيون بين سلعها، لكن تجارة القرن الـ18 هي التي وسعت انتشار الأفيون كما سبق ذكره، حيث كانت تجارة الأفيون أحد أكثر الأعمال المدرة للأرباح بشكل كبير؛ نظراً لارتفاع الطلب عليه سواء في أوروبا التي صار غالبيتها مدمناً للأفيون، أو حتى خارج القارة الأوروبية.
في منتصف القرن الـ18، كان التجار الإنجليز يبيعون حوالي طنين من الأفيون سنوياًً إلى الصين، بعد مئة عام، وصلت الكمية إلى 2000 طن من خلال تجارة التهريب التي كانت تعتمدها بريطانيا في الصين من أجل استرجاع خسائرها في تجارتها مع الصين، بحيث كان التجار البريطانيون يشترون السلع من الصين مقابل الفضة ولا يبيعون شيئاً يُذكر، لذلك لجأوا إلى إغراق الصين بالأفيون وجعل الصينيين مدمنين عليه.
قامت الصين بحظر الأفيون بعد إدمان ملايين الصينيين عليه، أدى هذا الوضع إلى حروب الأفيون بين الصين وبريطانيا العظمى.
استمرت من عام 1839 إلى عام 1860، وسعى البريطانيون خلالها للحصول على امتيازات في الصين، وإجبار سلالة تشينج الحاكمة، على تقديم تنازلات وقبول التدخل البريطاني في شؤونها الاقتصادية والاجتماعية.
فتح انتصار الإنجليز في حرب الأفيون ضد الصين الأبواب أمام تجارة حرة ومثمرة للغاية، بالنسبة لبعض المؤرخين، كان ذلك الانتصار بمثابة البصمة النهائية للغرب لتولي الهيمنة على العالم.