"الضباب في كل مكان، ضبابٌ فوق النهر، وضباب ينساب بين الجزر الصغيرة والمروج الخضراء للمدينة العظيمة والقذرة. ضبابٌ على مستنقعات إسيكس، وضبابٌ على مرتفعات كنتيش، وضبابٌ يحوم حول أشرعة المراكب الكبيرة، وضبابٌ يتدلى على الحواف العلوية للزوارق البخارية والقوارب الصغيرة. وضبابٌ في أعين متقاعدي غرينتش القدامى وحناجرهم، يصفر عند مواقد النار في عنابرهم. وضبابٌ في جذع غليون الربان الغاضب وفي مقصورته، وضبابٌ يقرص بقسوةٍ أصابع الصبي الصغير الذي يرتجف حافي القدمين على ظهر السفينة".
هكذا وصف الكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنز، لندن، مدينة الضباب، في روايته الشهيرة "المنزل الكئيب". قد يعتقد البعض أن لقب "مدينة الضباب" لقب رومانسي حازته لندن بسبب مناخها البارد، لكن الواقع مختلف تماماً.. فما قصة هذا اللقب؟
لماذا سميت لندن "مدينة الضباب"؟
لم يكن الطقس البارد سبب الضباب المنتشر في لندن ما بين القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر، فالسحب الضبابية التي غيمت على المدينة آنذاك وحجبت عنها نور الشمس، لم تكن مجرد بخار ماء متكاثف، بل كانت سحباً من الدخان والملوثات الضارة، ولم تكن بيضاء اللون حالها كحال السحب الضبابية المألوفة، بل كانت صفراء أحياناً ورمادية أو سوداء أحياناً أخرى.
بدأت معاناة سكان لندن من الضباب الكثيف والملوث مع بدايات الثورة الصناعية، وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر، بلغ التلوث ذروته في تلك المدينة التي كان يقطنها آنذاك قرابة مليوني شخص.
فقد سيطر على لندن آنذاك حيتان الصناعة، وتطورت فيها الاتصالات والطرقات والسكك الحديدية، ونمت فيها مصانع الورق والطباعة والمواد الكيميائية والجلود وغيرها، وباتت مركزاً لهندسة الأجهزة والغاز والطاقة. لكن ذلك كله كان على حساب البيئة التي باتت ملوثة بشكل لا يطاق.
ومما زاد الأمر سوءاً أن مئات الآلاف بدؤوا بالتدفق إلى لندن التي أصبحت مركزاً صناعياً؛ مما أدى إلى ظهور ضواحٍ جديدة وزاد من كمية الملوثات الناتجة عن مواقد التدفئة التي كانت تستخدم الفحم آنذاك بشكل رئيسي.
ضباب لندن لا يشبه الضباب الذي نعرفه
ساهمت الثورة الصناعية في انتشار مستويات غير مسبوقة من التلوث في مختلف المدن الإنجليزية، فعلى سبيل المثال سميت ويست ميدلاندز باسم "البلد الأسود"، بسبب السخام والدخان الذي غطى المنطقة.
مع ذلك لم يكن هناك مثل لندن بضبابها الكثيف الملوث، فقد كانت الملوثات- لا سيما الانبعاثات الكبريتية- تمتزج مع بخار الماء مُشكّلة ضباباً باللون الأصفر (بسبب ارتفاع نسبة الكبريت في الجو).
وكان الضباب الملوث في لندن كثيفاً للغاية ومنتشراً في كل مكان، وقد يكتسب لوناً رمادياً أو أسود تبعاً لنوع الملوثات الموجودة في الهواء.
ووفقاً لما ورد في موقع the culture trip، فقد علقت إحدى الصحف في عام 1901 بأن ما يمكن أن يكون ضباباً أبيض في البلاد "يصبح بنياً، وأحياناً أسود تقريباً، في العاصمة"، وعللت الصحيفة سبب انتشار هذا الدخان بالقول: "مداخننا التي لا تعد ولا تحصى تصب دخاناً- أو جزيئات لا حصر لها من الكربون- مما ينتج عنه تأثير الطين في الماء".
ضباب لندن يقتل سكانها
ضباب ملوث بهذه الدرجة وموجود في المدينة بهذه الكثافة لا بد أن يسبب كثيراً من الأمراض بل حتى الموت.
فعلى سبيل المثال خلف الضباب الدخاني العظيم الذي هبط على لندن في 5 ديسمبر/كانون الأول 1952، الآلاف من القتلى والمرضى بسبب التلوث.
ووفقاً لما ورد في موقع standard، فحتى الأبقار والحيوانات نفقت بسبب مستويات التلوث العالية. فقد كان الضباب الذي حدث في عام 1952، عبارة عن ضباب دخان أصفر كريه الرائحة وقذر وكثيف للغاية، لدرجة أن الناس لم يتمكنوا من رؤية أقدامهم أثناء السير في الشوارع ذلك العام.
وقد استمر هذا الضباب الذي عُرف باسم "الضباب الدخاني العظيم" خمسة أيام. تم خلالها تقييد حركة النقل، وضمن ذلك سيارات الإسعاف، واضطر الناس إلى ترك سياراتهم في الشارع، بسبب ضعف الرؤية، كما ازدادت معدلات الجريمة بالشارع أيضاً في تلك الفترة.
وتوفي نحو 10000 شخص، وأصيب ما يقرب من 200000 آخرين بالأمراض.
تشرشل يسن قوانين جديدة
في الوقت الذي حل فيه الضباب الدخاني العظيم ضيفاً ثقيلاً على لندن، كان ونستون تشرشل رئيس وزراء المملكة المتحدة آنذاك، وقد أصر على استمرار العمليات الصناعية واستمرار حرق الفحم بحجة أنه مجرد ضباب وسيزول قريباً.
لكن عندما تعرضت سكرتيرة تشرشل، فينيشيا سكوت، للتسمم بسبب الضباب الدخاني العظيم، اتخذ تشرشل الإجراءات اللازمة أخيراً، وسن قوانين أكثر صرامة فيما يتعلق بتلوث الهواء.
تضمنت هذه القوانين قوانين الهواء النظيف لعامي 1956 و1968، والتي حظرت انبعاثات الدخان الأسود وأمرت سكان المناطق الحضرية ومشغلي المصانع بالتحول إلى وقود لا يصدر دخاناً أسود.
كما أعطى قانون الهواء النظيف للسلطات المحلية سلطة التحكم في انبعاثات الدخان والغبار والأبخرة من المباني الصناعية والأفران، وإنشاء مناطق للتحكم في الدخان.