مع نهاية القرن التاسع عشر، كانت أوروبا تعيش أجواءً مشحونة تنذر بحربٍ موحشة في الأفق، فقد كانت روسيا التي تخوض حرباً مستعرة ضد الدولة العثمانية حينها، تنافس بروسيا على السيطرة على شرق أوروبا، وكانت بولندا مركزاً لذلك الصراع.
عمدت الدول المتصارعة على القضاء على الثقافات المحلية في بولندا، فقامت روسيا بتحويل اللغة الرسمية في الجزء الروسي منها إلى اللغة الروسية، وهو الشيء نفسه الذي فعلته بروسيا في المنطقة التي تخضع لها، بينما احتفظ البولنديون ببعض الاستقلالية في الجزء البولندي التابع للنمسا.
تسببت التقسيمات الثلاث لبولندا خلال أواخر القرن الـ19، إلى نماء الحقد بين مكونات بولندا، فمثلاً كانت مدينة بياليستوك التي كانت بولندية، ثم بروسية، ثم روسية، تضم أعداداً كبيرة من البولنديين والألمان والروس واليهود الأشكناز الناطقين باليديش، وكانت كل مجموعة تتحدث لغة مختلفة، وتنظر بريبة إلى المجتمعات الأخرى، وكان هذا الحال قائماً في أوروبا بأكملها، ولم يستثنِ بلداً.
في تلك الأثناء، برز العالم البولندي لوديك زامنهوف عام 1870، في محاولة له من أجل رأب الصراع في بولندا وأوروبا كلّها التي كانت على حافة الحرب.
كان زامنهوف يرى أن السبب الرئيسي في الصراع القائم هو حرب الهوية المفتعلة بين العديد من الأطراف في منطقة شرق أوروبا، فكان حسبه أنّ المتحدث بلغة مختلفة عن الآخر يُعتبر عدواً.
لذا رأى زامنهوف أنّ الحل لهذا الصراع يكمن في ابتكار لغة تجمع بين القوميات المتطاحنة، ويمكن للجميع أن يتواصل بها.
ليقرر أن أفضل ما يمكنه فعله هو إنشاء لغة مساعدة دولية، بحيث لا تكون هذه اللغة هي الأم لأي شخص، ولكن يمكن للناس تعلمها بسرعة كلغة ثانية لتسهيل التواصل مع الناس من أي مكان في العالم، ليقوم زامنهوف باختراع لغة الإسبرانتو.
الإسبرانتو.. اللغة التي اخترعت من أجل السلام في أوروبا
بعد سنوات من العمل على لغته الجديدة، نشر زامنهوف أوّل كتاب له تحت اسم "Unua Libro"، يضع فيه قواعد اللغة المبتكرة، وذلك تحت الاسم المستعار "Doktoro Esperanto"، كان ذلك في مدينة وارسو في 26 يوليو/تموز 1887، واعتمد زامنهوف النصف الثاني من اسمه المستعار اسماً للغة.
وضع هذا الكتاب، الذي يُترجم حرفياً على أنه "الكتاب الأول"، القواعد الأساسية للغة الإسبرانتو بجذور 920 كلمة، والتي عندما يتمُّ دمجها مع القواعد النحوية الـ16 البسيطة للغة، يمكن أن تشكل عشرات الآلاف من الكلمات.
استندت جذور الإسبرانتو إلى حد كبير على اللاتينية، مع تأثيرات مستمدة من الإنجليزية والفرنسية والألمانية واليونانية والإيطالية واللاتينية والبولندية والروسية واليديشية، حيث كانت هذه هي اللغات التي كان زامنهوف أكثر دراية بها، كما أنّ جزءاً منها مأخوذ من اللغات الشرقية بما فيها اللغة العربية.
أمّا نحوياً، فقد تأثرت الإسبرانتو بشكل أساسي باللغات الأوروبية، ولكن المثير للاهتمام أن بعض ابتكارات الإسبرانتو تحمل تشابهاً مذهلاً مع الميزات الموجودة في بعض اللغات الآسيوية، مثل الصينية.
أما عن سبب هيمنة اللاتينية على الإسبرانتو، فقد تم القيام بذلك عن قصد حتى يتمكن أولئك الذين يتحدثون لغة منحدرة من اللاتينية من الحصول على وقت أسهل بكثير في تعلم هذه اللغة الجديدة، إذ يدعي العديد من الإسبرانتيين أنه بسبب القواعد البسيطة والمفردات اللاتينية المألوفة والتهجئة الصوتية، يمكنك تعلمها أسرع بكثير من أية لغة أخرى.
منذ اختراعها، الإسبرانتو تحارب من أجل جائزة نوبل
بعد سنواتٍ قليلة من ظهورها كانت الإسبرانتو تلقى انتشاراً وقبولاً واسعين في أوروبا، إلى حدّ أن طالبت المنطقة الجغرافية ما بين ألمانيا وبلجيكا، والتي كانت أكثر المناطق احتواءً لناطقي الإسبرانتو، جعل الإسبرانتو لغة رسمية لها.
وسرعان ما انتشرت الإسبرانتو في آسيا وأمريكا الشمالية والجنوبية والشرق الأوسط وإفريقيا، وابتداءً من عام 1905، بدأ متحدثو الإسبرانتو من جميع أنحاء العالم في التجمع مرة واحدة سنوياً للمشاركة في مؤتمر الإسبرانتو العالمي للاحتفال واستخدام اللغة.
وبين عام 1907 ووفاته في عام 1917، تلقى زامنهوف 14 ترشيحاً لجائزة نوبل للسلام، على الرغم من أنه لم يفز بالجائزة أبداً.
استمراراً لحلم زامنهوف مع جائزة نوبل، تم ترشيح جمعية الإسبرانتو العالمية، وهي منظمة تسعى إلى تشجيع العلاقات بين الناس من خلال استخدام الإسبرانتو، لجائزة نوبل للسلام أكثر من 100 مرة، تقديراً لمساهمتها في السلام العالمي من خلال السماح للأشخاص في مختلف البلدان للدخول في علاقات مباشرة دون حواجز لغوية، وحتى اللحظة لم تفز بالجائزة.
هتلر وستالين يحاربان الإسبرانتو
شكلت الفترة ما بين اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية أسوأ فترة للغة الإسبرانتو، فشهدت حينها الإسبرانتو رفضاً كبيراً من أنظمة الدول الأوروبية، وباتت غير قانونية في وجهة نظر الكثيرين، حسب bigthink.
خلال تلك الفترة، واجهت الإسبرانتو أشدّ خصمين لها، هما كل من الزعيم الألماني أدولف هتلر والزعيم السوفييتي جوزيف ستالين.
كتب هتلر في مذكراته الشهيرة "كفاحي"، أن الإسبرانتو كانت لغة يستخدمها اليهود كوسيلة للسيطرة على العالم، وبالتالي يجب القضاء عليها في أي مكان كانت ألمانيا النازية تسيطر عليه، وبدأ هتلر في إعدام كل من تم رصده متحدثاً بالإسبرانتو، والذين كان من ضمنهم عائلة زامنهوف كذلك، ليتم منع الإسبرانتو كلياً في ألمانيا عام 1935.
أمّا قصة ستالين مع الإسبرانتو فكانت متناقضة جداً، ففي البداية راق الأمر للسوفييت مع اللغة الجديدة، حتى إن ستالين نفسه تعلم اللغة، إلا أنه في عام 1937، اعتبر ستالين أن إسبرانتو هي لغة الجواسيس، وقام كذلك بنفي وإعدام كل من تم ضبطه متحدثاً بالإسبرانتو.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، اختفت الإسبرانتو بالكامل تقريباً، الميزة الوحيدة التي خرجت منها الإسبرانتو من تلك الفترة هي أنّها نجحت في البقاء على قيد الحياة بفضل مجموعات صغيرة من عشاق الإسبرانتو.
الإسبرانتو اللغة المصنعة الأولى في العالم
حالياً عادت لغة الإسبرانتو لتسترجع موقعها بين اللغات العالمية، إذ تعدّ اللغة المصطنعة الأولى عالمياً من حيث الانتشار وعدد المتحدثين الذين يُقدر عددهم بنحو 2.7 مليون متحدث للإسبرانتو بطلاقة حول العالم، كما أن هناك ألفي شخص يعتبرون الإسبرانتو لغتهم الأم، أي يتحدثون بها مع والديهم منذ الصغر.
وكانت اليونسكو قد أصدرت في عام 1985 قراراً يشجع الدول على إضافة الإسبرانتو إلى مناهجها المدرسية، كما أعلنت اليونسكو أيضاً عام 2017 عام زامنهوف، ومنذ ذلك الوقت، أصدرت مجلتها الرئيسية "رسالة اليونسكو" طبعة بلغة الإسبرانتو تنشر كل ثلاثة أشهر.
كما تصاعدت عدة نداءات لاعتماد الإسبرانتو كلغة رسمية من الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا، عن طريق العديد من الفعاليات، منها تجميع توقيعات على موقع آفاز، وحملة تعريفية على موقع change والعديد من المبادرات الأخرى.
يتمّ تدريس هذه اللغة الاصطناعية في جميع أنحاء العالم، وتزعم بعض التقديرات أن هناك ما يصل إلى عدة ملايين من الإسبرانتيين أو متحدثي الإسبرانتو.كما يوجد مؤتمر عالمي للإسبرانتو سنوياً، وتوجد 22 جمعية مهنية دولية للإسبرانتو، وتم نشر أكثر من 30 ألف كتاب بالإسبرانتو.