كان ذلك بعد الساعة الـ4 صباحاً بقليل، عندما قفز 8 رجال يرتدون ملابس رياضيّة من على سياج القرية الأولمبية في مدينة ميونيخ الألمانيّة، حاملين معهم بنادق كلاشينكوف وقنابل يدوية، واتجهوا نحو مقر إقامة الفريق الإسرائيلي، ليبدأوا واحدة من أكثر عمليات الاختطاف إثارة في القرن الـ20، والتي أطلق عليها فيما بعدُ اسم "عملية ميونيخ".
كيف بدأت عملية ميونيخ، ومن هم المخططون والمنفذون؟
عملية ميونيخ، هي عملية احتجاز رهائن نفذتها منظمة أيلول الأسود بحق عدد من لاعبي المنتخب الإسرائيلي المشاركين في دورة الأولمبياد الصيفية المقامة بميونيخ في ألمانيا من 5 إلى 6 سبتمبر/أيلول سنة 1972.
وقد كانت الألعاب الأولمبية المقامة في ميونيخ أول عودة للمسابقة إلى ألمانيا وذلك منذ دورة الألعاب الأولمبية عام 1936 في برلين.
مطالب المنظمة كانت واضحة، وهي الإفراج عن 236 معتقلاً في سجون الاحتلال، معظمهم من العرب، من بينهم أسيرتان مغربيتان فرنسيتان اعتقلتا أثناء تهريبهما سلاحاً لصالح "الجبهة الشعبية".
وأيضاً ريما عيسى وتيريز هلسة اللتان اعتقلتا في عملية خطف طائرة "سابينا 572″، وأسماء ضباط سوريين أَسرتهم "إسرائيل" مع ضابط لبناني.
في حين أضيف إلى القائمة أيضاً اسما "أولركه ماينهوف وأندرياس بادر" وهما عضوان في مجموعة "بادر ماينهوف" الراديكالية الألمانية، المتعاطفة مع قضية الشعب الفلسطيني، والمحتجزان في السجون الألمانية، وكوزو أوكاموتو من "الجيش الأحمر" الياباني الذي نفذ مع رفاق له عملية مطار اللد.
الروايات الفلسطينية تقول إن التخطيط لعملية ميونيخ جاء للرد على عمليات الاغتيال التي ينفذها "الموساد" الإسرائيلي ضد شخصيات فلسطينية، ورداً على قصف قواعد الفدائيين في لبنان، وأيضاً للفت انتباه العالم إلى القضية الفلسطينية خلال هذا الحدث الهام، فضلاً عن المطالبة بالإفراج عن المعتقلين.
اغتيال غسان كنفاني ورفض مشاركة فريق فلسطيني بالأولمبياد ساهما في التخطيط للعملية
في مطلع عام 1972، قدّم "سعيد السبع" رئيس المجلس الأعلى لرعاية الشباب الفلسطيني، طلباً إلى اللجنة الأولمبية الدولية يطلب من خلاله الموافقة على مشاركة وفد فلسطيني في بطولة الألعاب بميونيخ، إلا أن الطلب رُفض.
في الفترة ذاتها كان محمد داود عودة، عضو المجلس الوطني الفلسطيني وعضو المجلس الثوري لحركة فتح، وصلاح خلف قائد الأجهزة الأمنية الخاصة لمنظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح، يفكران في القيام بعملية مدوّية، رداً على عمليات الاغتيال والقصف التي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي.
بداية، كان التفكير في العملية أن تكون ضد الموساد وأذرعه، لكن عملية اغتيال القاص والروائي الفلسطيني غسان كنفاني والتي جاءت في يوليو/تموز من العام ذاته، فتحت الباب على مصراعيه لتنفيذ عملية انتقامية مشابهة.
أولى الخطوات كانت تحديد مكان الهدف، مثل سفارات وقنصليات إسرائيل، لكنّ هذا المقترح رُفض؛ لتجنب الدخول في مشاكل مع الدول التي تستضيف تلك البعثات، ليبرز أخيراً أولمبياد ميونيخ لرد الصاع صاعين، أولاً على الاحتلال الإسرائيلي وثانياً على اللجنة الأولمبية التي رفضت مشاركة الفريق الفلسطيني.
خطوات التخطيط للعملية
جاءت فكرة عملية الاختطاف من فخري العمر أحد مؤسسي حركة فتح، والذي اقترح الدخول إلى القرية الأولمبية واحتجاز لاعبي الاحتلال الإسرائيلي في الداخل.
ليطلب صلاح خلف من محمد داود عودة، القيام بجولة في أوروبا لشراء أسلحة وإيصالها إلى ميونيخ.
في حين كان الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس، المسؤول المالي في ذلك الحين، وكانت مهمته توفير ميزانية للعمل في حال الاتفاق عليه، وفقاً لما أكده موقع "عربي 21".
أثناء التخطيط للعملية، كان الاحتلال الإسرائيلي لا يتوقف عن عملياته، إذ حاول اغتيال بسام أبو شريف رئيس تحرير مجلة "الهدف"، التي تصدرها "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" بواسطة طرد مفخخ، كما حاول اغتيال أنيس صايغ مدير مركز الأبحاث الفلسطيني.
وعلى الرغم من أن المحاولتين فشلتا، فإنهما أحدثتا تشوهات في الرجلين اللذين لم يكن لهما أي دور في الأعمال العسكرية على الإطلاق.
في نهاية المطاف وبعد عمليات التمحيص والمراقبة والتخطيط، تبلورت الخطوط العريضة للعملية، وهي دخول فدائيين يرتدون ملابس رياضية عن طريق السياج الخارجي إلى الداخل ليبدوا كأنهم لاعبون مشاركون في الأولمبياد.
ومن ثمّ يقومون باقتحام مقر إقامة البعثة الإسرائيلية في وقت متأخر؛ لضمان أن يكون نياماً.
في حين جهّز المخططون، لطباعة جوازات سفر مزورة؛ لضمان دخول الفدائيين إلى ألمانيا دون أن يواجهوا أي مخاطر.
الأمريكيون ساعدوا الفدائيين على تسلق سياج القرية الأولمبية!
في ساعة الصفر التي كانت عند الرابعة صباحاً، استطاع فريق فدائيي منظمة أيلول الأسود المنبثقة من منظمة التحرير الفلسطينية الوصول إلى القرية الأولمبية التي كانت أبوابها مغلقة في هذا الوقت المتأخر من الليل.
وصول الفدائيين ترافق مع وصول أفراد من الفريق الأمريكي كانوا "سكارى" وأخذوا أيضاً في محاولة تسلق السياج رفقة الفدائيين.
أخذ الجميع يساعد بعضه البعض من أجل أن يتمكنوا جميعاً من تسلق السياج والدخول إلى القرية، حتى إن أعضاء الفريق الأمريكي كانوا يمدون أيديهم ليأخذوا حقائب الفدائيين المليئة بالأسلحة ويضعوها على الجهة الأخرى من السياج دون أن يدروا إطلاقاً أنهم يساعدون فدائيي "أيلول الأسود".
ساعة الصفر
في تمام الـ8 صباحاً، نجح أفراد منظمة أيلول الأسود في التسلل بنجاح إلى مقر إقامة الفريق الإسرائيلي، فقتلوا أحد أفرادهم واحتجزوا 13 آخرين.
الشرطة الألمانية أحاطت المبنى بالكامل، وبدأوا في المفاوضات مع الفدائيين بحضور وزير الداخلية الألماني الذي قدم العديد من العروض على الفدائيين من بينها مبلغ غير محدد من المال، وثانياً مبادلة أعضاء البعثة الإسرائيليين بمسؤولين حكوميين ألمان، لكنَّ الفدائيين رفضوا جميع العروض المقدمة، وأصروا على شروطهم المسبقة بإطلاق سراح الأسرى.
على الرغم من أن هناك عملية اختطاف تجري في ميونيخ، فإن منافسات الألعاب الأولمبية كانت لا تزال مستمرة.
كمين إسرائيلي-ألماني تسبب بوفاة الرياضيين
وبعد ساعات من المفاوضات وافق الفدائيون على طلب ألمانيا انتقالهم مع الرهائن إلى مطار ميونيخ ثم السفر إلى العاصمة المصرية القاهرة.
وبالفعل جهزت الحكومة الألمانية طائرتي هليكوبتر وسلمتهما للفدائيين الذين صعدوا على متنهما رفقة الرهائن، وبدلاً من أن يتجه طيارا الطائرتين نحو ميونيخ للانتقال إلى القاهرة، هبطتا بمطار عسكري تابع لحلف شمال الأطلسي في بلدة فورستنفلدبروك الألمانية، إذ اتضح أن الشرطتين الألمانية والإسرائيلية نصبتا كميناً للفدائيين.
وخلال تبادل لإطلاق النار قتل جميع الرياضيين الإسرائيليين و5 من الفدائيين واشتعلت النار في المروحيتين، كما توقفت الألعاب الأولمبية ليوم واحد.
وعلى الرغم من ذلك، فقد نشرت إسرائيل 45 وثيقة رسمية بشأن عمليات القتل بميونيخ في 1972، منها وثائق رُفعت عنها السرية حمّلت المسؤولية كاملة لأداء الأجهزة الأمنية الألمانية في الاستجابة للعملية.
وفي إحدى الوثائق تصريح رسمي من الرئيس السابق للاستخبارات الإسرائيلية، زفي زامير، قال فيه إن الشرطة الألمانية "لم تبذل أدنى الجهود لإنقاذ أرواح"، وفقاً لما ذكره موقع "الحرة".
في حين تشير وثائق نشرها موقع "الجزيرة نت"، إلى أن إسرائيل أصيبت بالصدمة جراء قيام ألمانيا بإطلاق سراح الفدائيين الثلاثة الذين نجوا بعدما نجحت جماعة أيلول الأسود في خطف طائرة ألمانية.
وأضافت الوثائق أن الألمان استخدموا مسدسات بدلاً من بنادق قناصة، وأنهم أحجموا عن تقديم الإسعافات الأولية للمصابين حتى ماتوا نزفاً، كما أنهم لم يبذلوا الجهد المطلوب لإنقاذ الرهائن ورموا النار بطريقة عشوائية، واصفاً أداءهم بالفاشل والمأساوي.
ما بعد عملية ميونيخ 72
بعد فشل عملية إنقاذ الرهائن، قررت رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك، غولدا مائير، الانتقام من منظمة "أيلول الأسود".
وسرعان ما تشكّلت لجنة إسرائيلية برئاسة مائير، وعضوية وزير الدفاع موشيه دايان، للرد على مقتل الرياضيين الإسرائيليين الـ11، سيفتحون نيرانهم على كل مَن له علاقة بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة بمنظمة "أيلول الأسود"، وفق موسوعة Britannica البريطانية.
شكلوا فريق الاغتيال وأطلقوا عليه "غضب الله" أو "غضب الرب"، وضموا إليه عمالقة وكالة الاستخبارات الإسرائيلية الخارجية "الموساد"، مدعومين بفرق العمليات الخاصة، وقرروا تعقُّب وقتل المشتبه في تخطيطهم لـ"مذبحة ميونيخ" أو المشاركين فيها.
طويلة كانت قائمة المطلوبين، تصدرها 3 وهم الناجون من فريق المنفذين الـ8؛ إذ مات 5 في تبادل إطلاق نار مع قوات الشرطة أثناء محاولة فاشلة لإنقاذ الرهائن، وأطلقت حكومة ألمانيا الغربية سراح الباقين بعد أسابيع من احتجازهم مقابل تحرير طاقم الطائرة المختطفة التابعة للخطوط الجوية الألمانية "لوفتهانزا".
تصفيات "أيلول الأسود"
في أكتوبر/تشرين الأول من العام 1972 بدأت الاغتيالات؛ سلسلة كان أول ضحاياها ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في روما وائل زعيتر، وأمام مدخل شقته أطلق عليه عملاء "الموساد" 16 رصاصة أردته في الحال قتيلاً.
كان مقتل زعيتر إنذاراً ببدء عمليات "غضب الله"، 3 أشهر وكان الاستهداف الثاني، في التاسعة من صباح الثامن من يناير/كانون الثاني اغتيل السياسي البارز محمود الهمشري، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، وبعملية دراماتيكية تسلل خبراء متفجرات إلى منزله وزرعوا قنبلة يُتحكم فيها عن بعد، تحت الأرضية الخشبية الواقعة أسفل طاولة الهاتف.
بعدها تنكَّر أحد أعضاء العملية في هيئة صحفيٍ إيطالي، ورتَّب إجراء مقابلةٍ مع الهمشري عبر الهاتف، وما إن استقبل المكالمة في موعد المقابلة المُتفق عليه، وحين عرّف نفسه، جرى تفعيل القنبلة، ومات متأثراً بجراحه بعد يوم من الانفجار.
توالت الاغتيالات، وقُتل قادة آخرون في جميع أنحاء أوروبا، من بينهم باسل الكبيسي، وحسين عباد الشير، وزياد مونشاسي، ومحمد بودية.
وفي أبريل/نيسان من العام 1973 كانت المهمة الصعبة، أخذ الموساد شكلاً جديداً في الرد وآلية القتل، ونفذ واحدة من أصعب عمليات الاغتيال آنذاك، بعدما قرر اقتحام مقر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في العاصمة اللبنانية بيروت وقتل كل من فيه.
وضع قائد وحدة النخبة "سايريت ماتكال" التابعة للجيش الإسرائيلي إيهود باراك، خطة الاستهداف وأطلق عليها "ربيع الشباب"، وكانت تتمثل في عمليات إنزال برمائية لفرق من وحدة الكوماندوز الإسرائيلية داخل العاصمة اللبنانية.
وبمجرد وصولهم إلى الشاطئ، نسّقوا جهودهم مع عملاء الموساد الموجودين داخل المدينة، وهاجم فريقٌ من جنود المظلات الإسرائيليين مقر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، واغتالوا قادة في المنظمة من بينهم يوسف النجار، وكمال عدوان، وكمال ناصر.
قتل بالخطأ أوقف عمليات الانتقام الإسرائيلية
لم تتوقف سلسلة الاغتيالات إلا بقتل عن طريق الخطأ.. عملية كانت بمثابة الرادع لفرق الموت، بعدما أخفق فريق "غضب الله" في العام 1973، في تحديد واحد من أهدافه.
في النرويج كان من المقرر أن يُغتال القيادي البارز بحركة فتح علي حسن سلامة، وهو قائد عملية منظمة "أيلول الأسود" في ميونيخ، والملقب لدى الموساد بـ"الأمير الأحمر".
وبدلاً من استهدافه، قُتل رجل آخر في مدينة ليلهامر بالنرويج، وأفضى التحقيق، الذي أجرته السلطات النرويجية، إلى إدانة 5 من عملاء الموساد واعتقالهم، فضلاً عن كشف شبكةٍ واسعة من عملاء الموساد والمخابئ السرية والملاذات الآمنة في جميع أنحاء أوروبا.
ضغطت الدول الأوروبية على غولدا مائير، لكي توقف برنامجها السري، وبعد تصعيد صاحب عملية النرويج، رضخت للضغوطات، لكن النيل من سلامة ظل هدفاً أمام أعين الموساد.
بعد 50 عاماً.. إسرائيل تفتح تحقيقاً ضد محمود عباس بخصوص عملية ميونيخ!
اليوم وبعد نحو 50 عاماً على قيام العملية، قالت وسائل إعلام إسرائيلية، الأربعاء 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، إن الشرطة الإسرائيلية ستفتح تحقيقاً في تورّط الرئيس الفلسطيني، محمود عباس (أبو مازن)، في عملية ميونيخ عام 1972، بعد أن قدّم مكتب المدعي العام طلباً لهم بهذا الشأن.
موقع "سروجيم" الإسرائيلي، الذي أورد الخبر، أوضح أنه جاء في الالتماس الذي بادر به المحامي أفيعاد فيسولي: "بحسب العديد من الشهادات، وضمنها من محمد داود عودة، المعروف باسم أبو داود، الذي خطط وأدار عملية قتل 11 رياضياً إسرائيلياً في أولمبياد ميونيخ عام 1972، محمود عباس المعروف بأبو مازن، كان متواطئاً وشارك في التخطيط للمجزرة وموّل بشكل مباشر، مذبحة ميونيخ".