على غرار "شاكا"، الذي قاد مملكة الزولو وتسبّب بموت الملايين، لكنه تمكن رغم ذلك من توحيد قبائل جنوب إفريقيا وبناء إمبراطورية لم تشهد المنطقة مثلها من قبل، برزت شخصية رانافالونا الأولى.
تُصنّف رانافالونا الأولى ضمن قائمة أكثر الملوك دموية على مرّ تاريخ القارة الإفريقية، وقد حكمت مملكة مدغشقر على مدى 33 عاماً في القرن التاسع عشر.
جمعت هذه الملكة الإفريقية تناقضات كانت سبباً في تخليد اسمها إلى يومنا هذا بذاكرة الشعوب الإفريقية والعالم، كامرأة غامضة لا تخلو شخصيتها من الجاذبية على ما فيها من وحشية وقدرة على إدارة البلاد في الوقت نفسه.
ورغم انقضاء أكثر من قرنٍ ونصف على وفاتها، لا يزال التاريخ يذكرها كأحد أعظم القادة في إفريقيا. وبالموازاة مع حكمها الديكتاتوري، اشتهرت رانافالونا بمحاربة الاستعمار الأجنبي -البريطاني والفرنسي- إلى جانب سعيها لعصرنة بلادها من خلال اتفاقيات مع بعض المهندسين والمقاولين الأوروبيين.
تعالوا نتعرّف إلى الزعيمة التي قادت بلادها بقبضةٍ من حديد، ومارست سياسات تعسفية مختلفة، كانت سبباً في مقتل ما يُعادل نصف سكان مدغشقر.
أصبحت ملكة بالصدفة!
لا يوجد تاريخ محدّد لولادة رانافالونا؛ لكن بحسب الموسوعة العالمية Academic، فإنّها ولدت ما بين سنتي 1788 و1790 (ويُرجّح أن يكون 1788) وتوفيت في 15 آب/أغسطس 1861.
لم يكن والدها من العائلة المالكة، بل زوج إحدى قريبات الملك "أندريانامبوانيميرينا"، فعاشت رانافالونا في عائلة فقيرة تقطن بالقرب من منطقة أنتاناناريفو في مدغشقر؛ حتى عرفت العائلة الفقيرة حدثاً مفصلياً غيّر مستقبلها تماماً.
فخلال فترة طفولة رانافالونا، تمكن والدها من إنقاذ حياة الملك بعدما حذّره من محاولة اغتيالٍ تُحاك ضدّه. وبفضله، نجا الملك من الموت. وكمكافأةٍ لهذه العائلة، قرّرت الأخت الكبرى للملك -وتُدعى رازيلوكا- تبنّي رانافالونا وضمّها للعائلة الملكية.
تعود أصول رانافالونا الأولى إلى قبائل ميرينا، الذين يشكلون النسبة الأكبر من سكان مدغشقر. ووفقاً لموسوعة Britannica لا تُعرف الجذور الحقيقية لشعب ميرينا، ولكن المؤكد أنّه استوطن وسط جزيرة مدغشقر في القرن الخامس عشر، وأسّس مملكة صغيرة.
بدأت مملكة ميرينا في التوسع في عهد الملكة رافوهي مطلع القرن السادس عشر، وتواصل التوسع إلى أن أصبحت -في عهد الملك أندريانامبوانيميرينا- بمثابة مملكة متحدة تحت راية واحدة؛ وذلك بفضل قواته العسكرية التي كان يقودها ابنه راداما، والتي نجحت في السيطرة وتأمين جزءٍ كبير من الهضاب العليا لوسط مدغشقر.
حكم أندريانامبوانيميرينا مملكة ميرينا من العام 1787 إلى 1810، ثم خلفه عند وفاته نجله راداما الذي واصل سياسة والده التوسّعية. ضمّ معظم الممالك الأخرى لجزيرة مدغشقر إلى مملكته، كما سعى لعصرنة البلاد من خلال الترحيب بالإرساليات التبشيرية المسيحية، والمستشارين الأوروبيين، وإرساء التعليم الغربي في المدارس.
قبل وفاة الملك أندريانامبوانيميرينا، تزوج نجله راداما من رانافالونا. ولكنه توفي في العام 1828، فخلفته على الفور.
وبحسب الموقع التاريخي الفرنسي Histoire Par Les Femmes، لم تكن رانافالونا من ضمن الخلفاء المُفترضين لتولي عرش مملكة مدغشقر. ولكن بحكم أنّ زوجها راداما قد غادر الحياة من دون أن يترك أي ولد، فقد قررت الطبقة الأرستقراطية للبلاد تعيين أرملته رانافالونا ملكة جديدة، بهدف تفادي أزمة خلافة أو حرب أهلية.
أوقفت الحملات التبشيرية وطاردت المسيحيين
بداية حكم رانافالونا الأولى كانت هادئة. فقد واصلت سياسة زوجها فيما يخصّ تعميم وتطوير التعليم، ما أكسبها ودّ شعبها، قبل أن ينقلب أسلوب حكمها نحو العدوانية تجاه الأوروبيين.
ووفقاً لموقع Jacaranda Madagascar، فإن سبب هذا التغيير الجذري هو الضغط الذي مارسه مختلف الوزراء المحافظين الذين تعاقبوا على منصب كبير المستشارين، كراينهارو وأندرياميهاجا وراينيجوهاري، إضافةً إلى قادة جيشها العسكري والكهنة الكبار المُتوجسّين من تغلغل الثقافة الغربية إلى البلاد.
زاد تأثر الملكة رانافالونا الأولى بذلك الضغط، عندما لاحظت بداية ثورة الشعب عليها، واشتبهت في أن يكون الإنجليز قد حرّضوا عليها. فمزقت المعاهدات المبرمة مع المملكة المتحدة عام 1817، والتي كانت تسمح للإرساليات التبشيرية المسيحية بالتواجد وممارسة النشاط في مدغشقر.
كما طاردت كل السكان الملغاش الذين تحوّلوا إلى المسيحية، فمنعتهم من ممارسة شعائرهم ودعتهم للعودة إلى الدين القديم للبلاد الذي كان عبارة عن عادات وطقوس ليس لها علاقة بأي دينٍ سماوي.
تيقنت رانافالونا بعدم صدق نوايا الحكام الأوروبيين تجاه بلدها، لما قامت سفينة حربية فرنسية -بقيادة الأميرال غوربييه- بالاستيلاء على خليج تينتانغ المقابل لسواحل مدغشقر، ثم قصفت مدينة تواسماسينا في 11 أكتوبر/تشرين الأول 1829، وذلك قبل أن تنسحب تحت ضغط قوي من القوات الملغاشية التي كانت تُسمى بـ"جيش هوافا".
وفي العام 1832، أصدرت الملكة أمراً بمنع أطفال "العبيد" من الذهاب إلى المدرسة بحجة أنّ البعض منهم بدأ يُظهر العصيان، ويدعو إلى التخلص من وضعهم الذليل.
وفي العام 1834 قررت أن يقتصر التعليم داخل المدارس الحكومية فقط، وبالتالي منع نشاط المدارس التابعة للإرساليات التبشيرية، سعياً منها لتفادي نشر الثقافة المسيحية بطريقة أو بأخرى.
كما أصدرت في الأول من مارس/آذار 1835 قراراً ملكياً يُمنع من خلاله كل مواطن ملغاشي من التعامل مع المبشرين المسيحيين بأي طريقةٍ كانت؛ ما دفع بهؤلاء الأجانب إلى مغادرة البلاد، واحداً تلو الآخر.
وتعرّض الأوروبيون الذين بقوا في عاصمة مدغشقر، أنتاناناريفو، لإجراءاتٍ ملكية صارمة. فقد صدر قانونٌ خاص عام 1845 يدعو التجار والمقاولين القادمين من القارة العجوز لمغادرة الجزيرة، أو الخضوع للأعمال الشاقة في حال الرفض.
وقد تصل العقوبة إلى حدّ إخضاعهم لاختبار تناول ثمرةٍ سامة تُسمّى Tanguin (التانجينا). وهو اختبار كان يطبّقه الحكام الأوائل لمملكة ميرينا لمعاقبة العدو أو المشتبه بارتكابه أعمالاً عدوانية، فيجبرونه على تناول تلك البذرة. إذا توفي، فهو مذنب حقاً. وإذا بقي على قيد الحياة، فهو بريء.
وعلى مدى الـ33 سنة التي أدارت فيها شؤون مدغشقر اتجهت رانافالونا الأولى إلى شنّ حملات عسكرية دامية على المناطق النائية من البلاد لإخضاعها، كما حاربت انتشار المسيحية واتخذت إجراءات قاسية ضد الحركة المسيحية الملاغاشية.
فخلال إحدى المرات، أمرت ملكة مدغشقر بتعليق عددٍ من المسيحيين إلى أعلى جرف قبل أن تتخذ قراراً بقذفهم نحو الصخور المدببة أسفله، بعدما رفضوا التخلي عن ديانتهم.
سياسات رانافالونا الأولى القمعية تسببت في وفاة نصف سكان الجزيرة
بعد طرد الأوروبيين من مدغشقر، ركزت الملكة رانافالونا وكبير مستشاريها راينيهارو على قمع حركات التمرد بشتى الطرق.
وإضافة إلى المُشتبه بارتكابهم جرائم عدوانية، اتجهت رانافالونا الأولى إلى التأكد من وفاء شعبها لها وعدم معارضته لسياساتها، من خلال تطبيق الطريقة الغريبة نفسها. وبناءً على ذلك تسبب تناول ثمرة الـTanguin في مقتل ما يعادل 2% من سكان مدغشقر.
أثناء تنفيذ أحكام الإعدام، اعتمدت رانافالونا طرقاً قاسية اختلفت تماماً عن الطرق التقليدية القديمة. وتراوحت بين تقطيع الأطراف، وشطر أجساد المتهمين إلى نصفين، أو الغلي في الماء الساخن.
ووفقاً لبعض المؤرخين، فقد أُعدم آلاف السكان خلال 10 سنوات في عهد رانافالونا. وقد ذهب بعض المراجع إلى حد القول إنّ سياسة الملكة القمعية تسبّبت في وفاة نصف سكان مدغشقر خلال 6 سنوات فقط.
ثم ساد البلاد هدوء نسبي من الناحية السياسية بعد وفاة كبير مستشاريها راينيهارو، قبل أن يعود القمع من جديد بعد محاولة الانقلاب عليها في العام 1853 -بدعم من الأوروبيين القلائل الذين بقوا في الجزيرة- وتنصيب ابنها الأمير راكوتو على العرش بدلاً منها.
والأمير راكوتو يعتبر رسمياً ابن الملك السابق لمدغشقر راداما الأول. ولكن بما أنه وُلد بعد حوالي سنة من وفاة والده، فإنّ بعض المؤرخين يشككون في أن يكون ابنه، بل ابن كبير مستشاري الملكة، أندريانيزا راينيجوهاري الذي كان مقرباً منها وتزوجها رسمياً في العام 1852.
وبعد فشل محاولة الانقلاب عليها، طردت الملكة رانافالونا الأولى الأوروبيين القلائل الذي بقوا في مدغشقر، على غرار الفرنسيَّين جون لابورد وجوزيف لامبيرت؛ وهما مقاولان كبيران.
أنشأت مجمعاً صناعياً كبيراً بفضل مغامر فرنسي
كان جون لابورد مغامراً فرنسياً وقد اعتمدت عليه رانافالونا الأولى -رفقة مهندسين ومقاولين أوروبيين آخرين- في تطوير الصناعة بمدغشقر، وتحديداً الصناعة الحربية. وقد أنشأ مجمعاً صناعياً كبيراً في مدينة مانتازوا، التي تبعد عن العاصمة أنتاناناريفو بحوالي 70 كلم.
وقد بدأ جون لابورد بناء ذلك المجمع الصناعي في سنة 1837، بطلب من الملكة رانافالونا لما قررت عصرنة بلادها من دون الاعتماد على حكومات الدول الأوروبية.
انتهى جون من بنائه في العام 1841، وكان يصنع فيه البنادق، والمدافع، وكرات البارود، والطوب، والفخار، إضافةً إلى المواد الزجاجية والخزفية، والصابون، والشموع، والمجوهرات، والورق، والأقمشة، والجلود وصولاً إلى الآلات الموسيقية والمشروبات الكحولية.
توقف المجمع الصناعي الكبير عن الإنتاج سنة 1853، بعد طرد جون لابورد من مدغشقر، لمشاركته في محاولة الانقلاب الفاشلة.
وبسبب تلك المحاولة الفاشلة، عادت الملكة رانافالونا الأولى لقمع كل من يعارضها أو يهدد استقرار عرشها، مستعملة اختبار الثمرة السامة التي قضت على عدد كبير من سكان البلاد.
وبالتزامن مع ذلك، صدّت الملكة رانافالونا الأولى العديد من المحاولات الفرنسية للتدخل في البلاد، كما اتجهت لزيادة عدد جنودها وتحسين البنية التحتية لمدغشقر عن طريق استعباد نسبة كبيرة من الأهالي وإجبارهم على العمل في ظروف قاسية.
فما بين عامَي 1828 و1861 كانت مدغشقر مسرحاً للعديد من الكوارث؛ فقد تعرّضت البلاد للعديد من الأوبئة والمجاعات، بسبب سوء الإدارة والتصرف؛ ما أسفر عن سقوط عدد هائل من الضحايا.
يوم السادس عشر من شهر آب/أغسطس سنة 1861 فارقت رانافالونا الأولى الحياة عن عمرٍ يناهز 83 سنة بعد أن قضت 33 سنة في سدة الحكم تسببت خلالها في مقتل الملايين.
وبحسب بعض الإحصائيات، تراجع عدد سكان مدغشقر إلى النصف خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر. فقد قُدّر عدد سكان البلاد بنحو 5 ملايين نسمة سنة 1833، ليتراجع إلى حدود 2,5 مليون نسمة فقط بحلول عام 1839.
توفيت الملكة رانافالونا الأولى في سنة 1861، تاركة بلداً قوياً ومستقلاً. فخلفها نجلها راداما الثاني الذي لم يعمّر سوى سنتين اثنتين من بعدها، قبل أن يموت مقتولاً. وفي عهده عاد الأوروبيون للنشاط بحرية في مدغشقر، ومن بينهم المغامر والصناعي جون لابورد، الذي أصبح أول قنصل لفرنسا بالمملكة.
واستمر النفوذ الفرنسي في التغلغل بمدغشقر إلى غاية استعمارها بشكل رسمي في سنة 1896، في عهد الملكة رانافالونا الثالثة بعد مقاومة صغيرة من جيشها الضعيف.