ارتكب الأوروبيون خطأً فادحاً عندما استهانوا بالمحاربات في "مملكة داهومي"، اللواتي عُرفن باسم أغوجي، أي "أمهاتنا". فقد ألقى الرجال أسلحتهم، رافضين قتال النساء، بعد أن اجتاحت أمازونيات داهومي السفن الفرنسية في القرن التاسع عشر.
سرعان ما تعلم الأوروبيون درساً قاسياً، عندما بدأت النساء بركلهم وضربهم بـ"الخطاطيف" (وهي حَديدة مُعوّجة الرأس) بكلّ وحشية، وبشراسةٍ لم يشهدها العالم على الإطلاق.
كما تعرّضت محاربات مملكة داهومي للاستخفاف على أرض الواقع، كذلك حصل في هوليوود مؤخراً؛ فقد كان من المتوقع ألا تتجاوز إيرادات فيلم The Woman King بضعة ملايين في أول عطلة نهاية أسبوع بعد عرضه. لكنه في الحقيقة تجاوز كلّ التوقعات، بإيراداتٍ بلغت 19 مليون دولار، مع إشادةٍ واسعة النطاق.
لكن الاهتمام الزائد بالفيلم ونجاحه غير المتوقع، صاحبهما بعض الجدل أيضاً، وقد تجلّى ذلك في هاشتاغ #BoycottWomanKing الذي طالب الناس من خلاله بمقاطعة الفيلم لأنه لا يروي قصة مملكة داهومي كاملة.
اشتكى بعض النقاد من أن الفيلم يخفي التاريخ الحقيقي لمملكة داهومي، التي شاركت في الحقيقة بتجارة العبيد، لا بل تقول بعض المراجع إنها كانت مركزاً لتجارة الرقيق؛ عن طريق مقايضة السجناء بالسلع الأوروبية، ثم بيعهم (أي السجناء) عبيداً في وقتٍ لاحق.
فما هي الحقيقة؟ هل يمكن اعتبار أمازونيات داهومي من البطلات؟ أم شاركن في تجارة العبيد؟ قبل الدخول فيما يقوله التاريخ عن المحاربات الإفريقيات، لنتعرّف أولاً على مملكة داهومي.
ماذا تعرف عن مملكة داهومي ونسائها الشرسات؟
مملكة داهومي واحدة من الممالك القديمة (تُعرف اليوم بجمهورية بنين)، التي ظهرت في غرب إفريقيا، خلال الربع الثاني من القرن السابع عشر.
كانت في بدايتها خاضعة لحكم ألادا، وحصلت على استقلالها عام 1715، ثم أصبحت خاضعة للاستعمار الفرنسي عام 1892. وفي عام 1904، أصبحت المملكة مستعمرة فرنسية، فكانت جزءاً من الحكومة العامة لمنطقة غرب إفريقيا الفرنسية.
تميّزت مملكة داهومي، منذ قيامها، بجيشها المكوّن من النساء المحاربات، أبرزها نساء أمازونيات داهومي، وقد شنّ ملوكها عدة غزوات ضدّ جيرانهم وتمكنوا من توسيع نطاق المملكة بشكلٍ ملحوظ.
شكلت مملكة داهومي قوة مهمة في القرن الـ18، وكوّنت جيشاً كبيراً. كانت البداية مع الملك الثالث لبلاد داهومي، هويجبادجا، الذي حكم من عام 1645 إلى عام 1685.
ويُقال إنه أسّس مجموعة حرسٍ شخصي له من النساء المتدربات على فنون القتل والحرب، التي تحوّلت فيما بعد إلى جيشٍ متكامل، لا يخشى المغامرة وخوض المعارك الخطرة.
ووفقاً لموقع BBC، فقد تمتعت كتيبة المحاربات في مملكة داهومي بالكثير من الشراسة والقساوة والمهارة في فن الحرب، حتى أطلَق عليها المستعمرون الأوروبيون أسماءً مختلفة، منها: "سباراتا السوداء" و"أمازونات داهومى" أو "محاربات الأمازون"، بسبب تشابهها مع أسطورة الأمازونيات المقاتلات في الأساطير اليونانية.
قاتلت "محاربات الأمازون" في الصفوف الأمامية لجيش داهومي، واشتهرن بالإقدام والشجاعة في المعارك التي خضنها، سواء خلال غاراتهن على القبائل المجاورة أو نضالهن ضد القوات الأوروبية.
جيش داهومي النسائي
في البداية، تطوّعت فتيات صغيرات (من سن 12 إلى 15 عاماً)، وتم اختيارهن بالقرعة. لكن حين زادت الحاجة إلى الجنديات، لجأت المملكة إلى السجينات اللواتي ارتكبن جرائم.
ومنذ أوائل القرن الـ19، أعطى الملك غيزو -الذي خلف الملك أغاجا- طابعاً خاصاً للدولة، والتحقت "محاربات الأمازون" رسمياً بصفوف جيش داهومي في عهده.
ويُمكن القول إن مملكة داهومي، وخلال فترة حكم الملك غيزو، امتلكت أكبر تاريخ مظلم في تجارة العبيد. فملايين من الإفريقيين السود اختُطفوا من بيوتهم وحقولهم على مدى مئات السنوات، وشُحنوا مثل البضائع إلى بلاد أوروبا وبعدها أمريكا، حيث بيعوا عبيداً.
عادت تجارة العبيد بالأموال الطائلة على الملوك، وكانت تشكل الدخل الأساسي لميزانية البلاد، وعلى رأسهم الملك غيزو الذي سلّم أبناء شعبه إلى الأوروبيين، مقابل الحصول على أسلحة، وأقمشة، ومشروبات.
إلى جانب ذلك، أجرى الملك غيزو خلال فترة ولايته -التي امتدت 40 عاماً- حملات تسجيل للمواطنين كل 3 سنوات، وأمرَ الداهوميين بتقديم بناتهم غير المتزوجات إليه من أجل إدخالهن في جيشه. فشكّل منهن فيالق منتخبة، ودرّبهن حتى برعن في القتال، وكانت قوتهن العضلية مدهشة.
قسّم الملك الجيش النسائي إلى عدة أفواج، وجدّد المعدات وأمدّهن بالأسلحة، كما وضع مبدأ التجنيد الإجباري، فتزايدت أعداد الجنديات بشكلٍ كبير. وتنقل ممثلو الملك من قرية إلى أخرى، ليختاروا أكثر الفتيات ملاءمة من الناحية الجسدية، وكان يجب أن يتميّزن بطول القامة والقوة والرشاقة، والأهم أن يكنّ في سن الشباب.
منح غيزو أهمية كبرى للجيش؛ رفع ميزانيته، وأضفى الطابع الرسمي على هيكله، ليشكل بذلك مملكة حقيقية لها جيشها المحارب الخاص، واقتصادها الحرّ من تجارة العبيد، التي أكسبته الأموال الطائلة.
نساء في وجه الاستعمار
وفي منتصف القرن الـ19، كان عدد الجنديات في داهومى يُقدَّر بالآلاف، ومثّل 30-40% من إجمالي الجيش، وكانت الاستراتيجية الأساسية لهذا الجيش هي عنصر المفاجأة. فلا تلجأ المقاتلات إلى القتال إلا في الحالات القصوى.
ونقلت صحيفة The Washington Post الأمريكية أن بعض الأمازونيات كنّ يقطعن رؤوس الرجال بسيفٍ مقوَّس. بينما استخدمت أخريات أظافرهن الطويلة لخنق الضحايا حتى الموت.
كما علّمت الأمازونيات بناتهن وحفيداتهن كيفية الدفاع عن أنفسهن، قبل وقتٍ طويل من بلوغهن سن الرشد، سواء كنّ مهتمات بحمل السلاح -كأمهاتهن- أم لا.
وكانت نساء مملكة داهومي مستعدات للحرب دائماً، لكنهن عجزن عن التغلب على عدو واحد وهو الاستعمار؛ إذ قُضِيَ على الأمازونيات بالكامل تقريباً عندما غزت فرنسا داهومي عام 1892.
ما مثل نهاية حربٍ دامت لعامين، وصراع قوة امتدّ لعقود. ويعتقد المؤرخون أن عدد الناجيات من الأمازونيات في المنطقة بلغ 50 محاربة فقط، لكنهن توفين جميعاً خلال السبعينيات.
وعاشت ذكراهن من خلال أغنيات وقصص الحرب التي تناقلتها الأجيال، بالإضافة إلى الثقافة الشعبية. كما ظهرت نسخٌ خيالية تصورية للأمازونيات في مسلسل Lovecraft Country من شبكة HBO الأمريكية، وفيلم Black Panther من إنتاج Marvel، واليوم فيلم The Woman King من بطولة فيولا ديفيس.
هوليوود في مواجهة التاريخ
بالعودة إلى فيلم The Woman King، دافعت مخرجة الفيلم جينا برنس بيثوود عن تصويرها التاريخي في مقابلات صحفية مختلفة. وأكّدت أن تجارة العبيد تمثل جزءاً لا يتجزأ من القصة التي ترويها.
وقد صرّحت لموقع IndieWire الأمريكي قائلة: "هناك افتراضٌ بأننا لم نتطرق لهذه القضية، لكننا فعلنا ذلك. وتعلمتُ منذ وقتٍ مبكر أن المرء لا يستطيع الفوز بنقاشٍ عبر تويتر. وأعلم جيداً أن كل هذه الأفكار ستختفي بمجرد أن يشاهدوا الفيلم".
فالفيلم -وفقاً لبيثوود- يُصوّر التعاون التجاري بين داهومي وتجار العبيد الأوروبيين، كما يشهد مطالبة شخصية المحاربة نانيسكا الرئيسية (التي تجسّدها فيولا ديفيس) للملك غيزو (الذي جسّده جون بويغا) بالتخلي عن تجارة العبيد والاكتفاء بأرباح تجارة زيت النخيل.
وهو ما يعكس الضغوطات الحقيقية التي واجهها الملك غيزو لإنهاء تجارة الرقيق في منتصف القرن الـ19، حتى لو كانت شخصية نانيسكا تمثل "تجسيداً لمجموعة من الأشخاص المختلفين، بحسب المخرجة. ويُشير الفيلم ضمنياً إلى أن الملك انحاز إلى صفّها في النهاية.
لكن وفقاً لموقع Mental Floss، فالوقائع التاريخية تُشير إلى أن الملك غيزو حظر تصدير "العبيد" في الحقيقة إرضاءً للإنجليز، الذين تخلّوا عن هذه التجارة عام 1807 وبدأوا يضغطون على بقية الدول لتحذو حذوها.
لكن المؤرخين يؤكدون أنه لم يُقضَ على تجارة الرقيق في داهومي بالكامل.