في الغالب يكون الجفاف أو الكوارث والحروب وراء ظهور المجاعات في التاريخ، لكن بالنسبة للمجاعة التي عصفت بالأوكرانيين خلال ثلاثينيات القرن الماضي كان السبب مختلفاً، فقد كانت الحكومة السوفييتية بقيادة الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين وراء تلك المجاعة الأوكرانية، المعروفة باسم "وباء الجوع" أو "هولودومور".
وفقاً للإحصائيات تسبب وباء الجوع في مقتل 5 ملايين شخص، 3.9 مليون من الضحايا كانوا من أوكرانيا وحدها، أي ما يعادل حوالي 13% من سكانها.
أوكرانيا قبل وباء الجوع
مع مطلع القرن الثامن عشر الميلادي تمّ تقسيم الأراضي الأوكرانية بين الإمبراطوريتين النمساوية والروسية، وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى والإطاحة بالنظام الملكي الروسي من خلال الثورة البلشفية، التي وقعت في فبراير/شباط 1917، أقامت أوكرانيا حكومة مؤقتة، معلنة نفسها جمهورية مستقلة في يناير/كانون الثاني 1918.
قاتلت جمهورية أوكرانيا الشعبية الجيش الأحمر السوفييتي لمدة ثلاث سنوات من سنة 1918 إلى 1921، لكنها خسرت معركتها من أجل الاستقلال.
تم دمج الجزء الأكبر من الأراضي الأوكرانية بالقوة إلى الاتحاد السوفييتي، أو اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، وبحلول عام 1922 أصبحت أوكرانيا تسمى جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية.
وافق الاتحاد السوفييتي على مصادرة جميع المنتجات الزراعية الفائضة من سكان الريف في أوكرانيا؛ ما أدى إلى انهيار اقتصادي.
أجبر سخط الفلاحين الأوكرانيين، لينين الذي كان في ذلك الوقت يرأس الاتحاد السوفييتي، على وقف مصادرة المنتجات الزراعية من أوكرانيا، وقام باتباع سياسة اقتصادية جديدة، كان الهدف منها توفير قدر أكبر من الحرية الاقتصادية والسماح للمشاريع الخاصة، خاصة للمزارع المستقلة والشركات الصغيرة.
وابتداءً من عام 1923، اتبعت السلطات السوفييتية أيضاً سياسة التوطين، والتي اتخذت فيها جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية شكلاً مستقلاً بعض الشيء، فشجعت سياسة التحرر الوطني والثقافي التي انتهجتها الحكومة السوفييتية في أوكرانيا، على استخدام اللغة الأوكرانية في التعليم ووسائل الإعلام والحكومة.
كان الهدف من السياسة السوفييتية الجديدة زيادة الدعم للنظام السوفييتي في أوكرانيا.
خوفاً من الثورة.. ستالين يقمع الفلاحين
بحلول نهاية العشرينيات من القرن الماضي، عزّز الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين سيطرته على الحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي، شعر ستالين بالتهديد من تعزيز الاستقلال الثقافي في أوكرانيا، فقام باتخاذ تدابير لتدمير الفلاحين الأوكرانيين والنخب الفكرية والثقافية الأوكرانية لمنعهم من السعي للحصول على استقلال أوكرانيا.
لمنع ثورة قد تندلع ضد نظامه من أوكرانيا، بدأ ستالين عمليات قمع سياسية واسعة النطاق من خلال التخويف والاعتقالات والسجن على نطاق واسع. تم اعتقال الآلاف من النخبة الأوكرانيين المعارضين لسياسة ستالين.
ومن أجل إنشاء اقتصاد شيوعي بالكامل لا تكون فيه أوكرانيا حجرة عثرة للسوفييت، فرض ستالين نظاماً جماعياً، قام من خلاله باستبدال المزارع الخاصة المملوكة والمدارة بشكل فردي، بالمزارع الجماعية الكبيرة التي تديرها الدولة، وتُسمّى "كولخوز"، بدعوى أنها ستكون أكثر فاعلية وأطول أجلاً لمشكلة استخراج الحبوب.
كما قام ستالين بإجبار الفلاحيين الأوكرانيين على تسليم نسبٍ عالية من الحبوب وبذور الحبوب إلى الحكومة السوفييتية، التي صارت تتحكم في تصدير الحبوب الأوكرانية إلى الخارج، لتمويل تحول الاتحاد السوفييتي إلى قوة صناعية.
عندما بدأ التجميع الجماعي للأراضي والماشية والحبوب في عام 1929، قاوم الفلاحون الأوكرانيون ذلك بقوة، ففي عام 1930 أبلغت الشرطة عن 4098 عملية مناهضة للحكومة السوفييتية في الريف الأوكراني، شارك في تلك العمليات نحو مليون فلاحٍ أوكراني.
في بعض تلك العمليات قام الفلاحون الأوكرانيون بضرب العمال الذين كلفوا بجمع الحبوب، وقاموا باستعادتها، كما أحرقوا مباني المكاتب الرسمية.
صنفت الشرطة 15 احتجاجاً للفلاحين الأوكرانيين على أنها "تمردات مسلحة" وجب الرد عليها وذلك حسب historyextra.
رداً على ذلك، سَخِرَ النظام السوفييتي من المقاومين الأوكرانيين، ووصفهم بأنهم "كولاك"، وهو مصطلح روسي يشير إلى الفلاحين الميسورين ذوي الدخل المرتفع، الذين يمتلكون مزارع مزدهرة ومساحات كبيرة من الأرض.
أصبح "الكولاك" بناءً حزبياً غامضاً، ولكن مع دلالة سلبية في الأساس، واعتبر القادة السوفييت أن طبقات الفلاحين المزدهرة هي العدو الداخلي الرئيسي لهم.
وباء الجوع يقتل 5 ملايين شخص ويجبر الأوكرانيين على أكل بعضهم البعض
كان ستالين يرى في ردّ فعل الفلاحين الأوكرانيين على سياسته جزءاً من مؤامرة أوكرانية واسعة للإطاحة بالحكم السوفييتي، لذلك قرّر ستالين سنة 1932 استخدام ستالين سياسة التجويع لسحق مقاومة الفلاحين الأوكرانيين.
في أغسطس/آب من عام 1932، أصدر ستالين مرسوم "سيقان الحبوب الخمس"، الذي يلزم بضرورة إطلاق النار على أي شخص، حتى ولو كان طفلاً، وهو يأخذ أي منتجات من حقل جماعي، لسرقة "الممتلكات الاشتراكية".
تفاقمت أزمة الأوكرانيين في خريف عام 1932، عندما اتخذ المكتب السياسي السوفييتي سلسلة من القرارات التي عمقت وباء الجوع في الريف الأوكراني. فلم تطالب الحكومة السوفييتية الفلاحين الأوكرانيين بالحبوب فقط، ولكن طالبت بكل المواد الغذائية المتوفرة.
في ذروة الأزمة دخلت فرق منظمة من رجال الشرطة ونشطاء الحزب المحليين منازل الفلاحين الأوكرانيين، وقامت بأخذ كل شيء صالح للأكل مثل البطاطس، والبنجر، والكوسا، والفاصوليا، والبازلاء، وحتى حيوانات المزرعة.
في لحظة وباء الجوع تم وضع أكثر من ثلث القرى في أوكرانيا على "قوائم سوداء" لفشلها في تلبية حصص ستالين من الحبوب.
وللهروب من الموت جوعاً أكل الأوكرانيون في تلك القرى أي شيء صالح للأكل مثل العشب، والجوز، والحيوانات مثل القطط والكلاب.
في الوقت نفسه تم وضع طوق حول الجمهورية الأوكرانية لمنع الهروب. وكانت النتيجة كارثية، حيث لقي ما لا يقل عن 5 ملايين شخص حتفهم من الجوع في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي بحسب history.
ومن شدة الجوع وصل الأمر بالأوكرانيين إلى أكل لحوم البشر، عدة عائلات أوكرانية محاصرة قامت بأكل أطفالها من شدة وباء الجوع.
في ذروة وباء الجوع، في يونيو/حزيران من عام 1933، كان الأوكرانيون يموتون بمعدل 28 ألف شخص في اليوم، وفي نهاية المجاعة كان حوالي 3.9 مليون أوكراني قد لقوا حتفهم جوعاً.
أنكر السوفييت "وباء الجوع" بأوكرانيا لأكثر من 50 عاماً!
بينما كان الأوكرانيون يموتون جوعاً أخذت الحكومة السوفييتية 4.27 مليون طن من الحبوب من أوكرانيا في عام 1932، وهو ما يكفي لإطعام ما لا يقل عن 12 مليون شخص لمدة عام كامل.
تُظهر السجلات السوفييتية أنه في يناير/كانون الثاني من عام 1933، كان هناك ما يكفي من احتياطيات الحبوب في الاتحاد السوفييتي لإطعام أكثر من 10 ملايين شخص.
خلال وباء الجوع في أوكرانيا رفضت موسكو المساعدات الخارجية، وبدلاً من ذلك قامت بتصدير الحبوب الأوكرانية وغيرها من المواد الغذائية إلى الخارج مقابل مبالغ نقدية.
بحسب الموسوعة البريطانية، أنكر الاتحاد السوفييتي لعقود طويلة، كارثة وباء الجوع بأوكرانيا، وتجنّبوا الحديث عنها داخل البلاد، وتمَّ قمع كل النقاشات عنها، فكان أول ذكر لها في الاتحاد السوفييتي في عام 1986، في أعقاب كارثة محطة تشيرنوبيل للطاقة النووية.