فيما يتعلق بالتكتيكات والخدع العسكرية، لم تكن هناك حيلة أكثر ذكاء، ممّا حدث في العاصمة الفرنسية باريس، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، حين بنى الفرنسيون "باريس مزيفة"، مزودة بمبنى شانزليزيه وجار دو نور مزيفين، من أجل خداع الطائرات الألمانية؛ لكيلا تدمّر مدينة باريس الحقيقية.
باريس تخشى مصير لندن
منذ بداية الحرب العالمية الأولى، كانت العاصمة الفرنسية باريس في دائرة الاستهداف الألماني، إذ تعرضت المدينة الفرنسية للقصف الألماني لأول مرة في 30 أغسطس/آب 1914، عندما ألقت طائرة ألمانية أربع قنابل على المدينة، ورغم قلة الخسائر، فإن حدة القصف والاستهداف، بدأت في الارتفاع شيئاً فشيئاً.
وتحوّل الألمان إلى استهداف العاصمة الفرنسية في الليل، من خلال المناطيد زبلين الألمانية الحاملة للقذائف، فضلاً عن طائرات جوته الألمانية.
بحسب تقرير لـmashable، قام الجيش الألماني بنشر مدفع اسمه "Paris Gun" على تخوم باريس، وهو مدفع ضخم يمكنه إطلاق قذائف يبلغ وزنها 234 رطلاً حتى 75 ميلاً في وسط المدينة مهدداً بتدميرها.
ولحماية آثارها من القصف العشوائي الألماني، قام سكان باريس بوضع أكوام من أكياس الرمل على السطوح وإزالة النوافذ الزجاجية والتماثيل الفنية من الكاتدرائيات ووضعها في مواقع محصنة.
أمّا الفرنسيون الذين ليست لديهم أكياس رمل لامتصاص ضربات القصف، فكان عليهم الاستعانة بشبكات من الشريط اللاصق من أجل تقوية نوافذهم.
خلال عام 1917، ركزت الطائرات والمناطيد الألمانية قصفها على إنجلترا، وركنت باريس إلى فترة راحة قصيرة، لم تشفع صلة قرابة بين قيصر الرايخ الألماني فيلهلم الثاني، وملك إنجلترا جورج الخامس للعاصمة الإنجليزية لندن من التدمير، فخلال تلك الفترة كانت العاصمة البريطانية لندن غارقة في وابل من القصف الألماني. ففي يونيو/حزيران 1917، تسببت إحدى الغارات الألمانية على مدينة لندن، في مقتل 162 بريطانيّاً.
عرف الفرنسيون حينها أن دورهم سيأتي. لكن كيف يمكنهم الدفاع عن أنفسهم؟ فقد أثارت صور الدمار المنتشر في مدينة لندن مخاوف الفرنسيين من تكرارها بعاصمتهم، فبدأ الفرنسيون في التفكير ملياً في الطريقة التي يحمون بها عاصمة النور باريس من جحيم دمار الألمان، بحسب historyextra.
باريس المزيفة.. حيلة مهندس إيطالي لإنقاذ باريس من الألمان
مع مطلع عام 1917، تم طرح فكرة إنشاء نسخة طبق الأصل من باريس خارج المدينة، من أجل خداع الطيارين الألمان.
في ذلك الوقت، كان القصف الجوي ليس بالدقة التي عليها الآن، إذ لم يكن قد تمّ تجهيز الطائرات بالرادار وتقنيات GPS بعد، لذلك كان على الطيارين الألمان استخدام الرؤية المجردة من أجل تحديد مواقع القصف، كما كان عليهم تتبع مسار نهر السين لتحديد مدينة باريس لقصفها، وذلك ما جعل من الفكرة قابلة للتنفيذ.
ومع ازدياد حجم خطر استهداف العاصمة باريس سنة 1918، تمّ تطوير الفكرة من قبل مجموعة الدفاع الجوي، واستعان المخططون العسكريون بشركات خاصة؛ للمساعدة في بناء المدينة المزيفة.
اختار المخططون موقعاً، يقع على ضفاف نهر السين، وعلى بعد 24 كيلومتراً شمال باريس في بلدة ميزون لافيت، لتشييد العاصمة المزيفة.
تم الاتفاق على تجسيد ثلاث مناطق لإنشاء المباني المتماثلة، فالشمال الشرقي مخصص لمحور القطار الرئيسي، والشمال الغربي يكون نسخة من وسط المدينة، أما الشرق فمخصص لتجسيد منطقة صناعية بأضواء ودخان مزيفين، ويتم ربط كل هذه الأحياء المزيفة من خلال خط سكة حديدية لقطار مصنوع من الخشب.
ضمت باريس المزيفة، معظم المباني الرئيسية الموجودة في المدينة الحقيية مثل قوس النصر، ومحطة قطار غار دو نور، وشارع الشانزليزيه، وذلك حسب the daily beast.
ولأن الاستهداف الألماني كان بالليل، ربما كان الجزء الأكثر أهمية في هذا المشروع هو طريقة إعادة إنشاء أضواء باريس.
الرجل الذي اعتقد أن لديه حلاً كان مهندساً كهربائياً يُدعى فرناند جاكوبوزي، كان جاكوبوزي فلورنسياً بالولادة، وكان قد عمل سابقاً بمعرض باريس الدولي في عام 1900، وهو معرض عالمي احتفل بإنجازات القرن الماضي، ويستشرف ما سيحدث في القرن العشرين، وهو نفسه الذي أضاء بعد سنوات قليلة لأول مرة برج إيفل والشانزليزيه.
تولى جاكوبوزي المهمة، وذلك باستخدام مصابيح بيضاء وصفراء وحمراء، تُستخدم أيضاً لخلق انطباع عن الآلات التي تعمل في الليل.
باريس المزيفة لم يتم تجريبها قط
وعلى الرغم من أنها قد تكون واحدة من أفضل الخطط العسكرية التي تم وضعها على الإطلاق، فإنه لم يتم اختبارها حقاً.
ففي 16 سبتمبر/أيلول 1918، كانت باريس الحقيقية على موعد مع آخر غارة ألمانية في الحرب العالمية الأولى، حين أغارت طائرات جوته الألمانية على باريس، وأسقطت 22 ألف كيلوغرام من القنابل. خلفت تلك الغارة 6 قتلى و15 جريحاً.
بعدها بيوم، قام الفرنسيون بوضع حيلتهم قيد التشغيل، وأضيئت باريس المزيفة لاستقبال القنابل الألمانية، لكن لم تكن هناك أي غارة.
في نوفمبر/تشرين الثاني 1918، انتهت الحرب بتوقيع هدنة كومبين، وحُرم جاكوبوزي ورفاقه من فرصة معرفة ما إذا كانت براعتهم قد تفوقت على الطيارين الألمان.
ومع ذلك، اعتقدت الحكومة الفرنسية أنها ابتكرت خطة عظيمة للدفاع عن باريس، إذا ما ظهرت قاذفات العدو فوق العاصمة الفرنسية في حرب مستقبلية، ورغم ذلك قامت بتفكيك المدينة المزيفة.
بقيت خطة الفرنسيين سرية إلى غاية 1920، عندما انفردت مجلة "The Illustrated London News"، بتاريخ 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1920، بنشر خرائط وصور أرشيفية لأول مرة، تشير إلى وجود مدينة باريس المزيفة، المدينة الوهمية التي أرادت بها فرنسا خداع الألمان خلال الحرب العالمية الأولى.