من بين كل الجماعات التي غزت الإمبراطورية الرومانية، لم يكن هناك من هم أكثر مهابةً وإثارة للخوف من قبائل الهون، التي تسبّبت أساليبها القتالية ووحشيتها في فرار الآلاف إلى الغرب، خصوصاً مع وصول قائدهم الأشهر أتيلا الهوني إلى الحُكم.
كانت قبائل الهون تتألف من المُحاربين البدو الرُحَّل، القادمين على الأرجح من آسيا الوسطى. اشتهروا بغزو أوروبا وترهيبها ما بين القرنين الرابع والخامس بعد الميلاد، وتسريع سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، إضافةً إلى محاولة إسقاط الشرقية أيضاً.
ويُمكن القول إن الشعوب الأوروبية تعرّضت لغزواتٍ بربرية، على يد قبائل الهون، شبيهة تماماً بغزوات مغول جنكيز خان وهولاكو، لكن قبل ذلك بقرونٍ طويلة. وقد هزّت تلك الغزوات أرجاء الإمبراطورية الرومانية بشقّيها، قبل أن تندثر سيرتهم في التاريخ ويختفي أثرهم.
بدأ ذلك بعدما أعلن قسطنطين الأول انتقال العاصمة الرومانية من روما إلى القسطنطينية، المدينة التي بُنيت على اسمه. فحصل انقسامٌ، وأصبح هناك الإمبراطورية الرومانية الغربية وعاصمتها روما، والإمبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية.
عانت الإمبراطورية الرومانية الغربية كثيراً قبل انهيارها في القرن الخامس، بسبب الغزوات البربرية المتعدّدة والمتكرّرة. ويُطلَق لفظ البربريون عموماً على أي قبائل لم تخرج من الإطار الهمجي، وتؤسّس دولة حديثة في وقتها، مثل الدولة الرومانية.
بدايات إمبراطورية الهون
وفقاً لموقع World History، تعود جذور قبائل الهون إلى القارة الآسيوية، لكن من غير أن تُعرف أصولهم على وجه التحديد. بعض التقديرات تنسبهم إلى شعوب شيونغنو الذين حكموا أجزاءً واسعة من منغوليا حتى القرن الثاني الميلادي، فيما ينسبهم البعض الآخر إلى كازاخستان أو مناطق أخرى من آسيا.
عانت الصين القديمة من هجمات شعوب الشيونغنو من الشمال، ولقرونٍ شكّلت هذه الشعوب كابوساً للأباطرة الصينيين المتتالين، ما جعل أسرة تشين تبدأ تدشين سور الصين العظيم، كان هذا في القرن الثالث قبل الميلاد.
عبر قرونٍ من الصراع، استطاعت الصين في القرن الثاني الميلادي إيقاع العديد من الهزائم بشعوب الشيونغنو، فهربت هذه الشعوب والقبائل إلى الغرب.
في الحقيقة فإنّ كلمة "شيونغنو" في اللغة الصينية القديمة عندما تُنطق تكون شبيهة بكلمة "هونو". وهكذا ربط بعض الباحثين بين شعوب الشينوغو شعوب الهون.
اتسمت شعوب شيونغنو بالترحال، وبدا أن نمط معيشتهم يتشابه كثيراً مع شعب الهون. لهذا يرجّح بعض الباحثين أنّ أصل شعب الهون هو شعوب الشيونغنو، وقد ارتحلوا بعد هزيمتهم من الصين من أقصى الشرق إلى أوروبا، بحثاً عن الغنائم ووطنٍ جديد.
هاجر الهون في مجموعاتٍ صغيرة متفرقة إلى الأجزاء الشرقية من أوروبا، ولم تكن لهم في ذلك الحين دولة معروفة، كما لم يعرفوا قائداً موحداً قبل أتيلا الهوني حين لعبوا دوراً محورياً في التاريخ الأوروبي.
ففي العام 370م، عبر محاربو الهون نهر الفولجا، وبدأوا في الهجوم على قبائل الآلان في إيران، الذين هاجروا غرباً. ثم تحرشوا بالقوط الشرقيين الذين كانوا على عداء مع الإمبراطورية الرومانية.
وفي عام 376، بدأوا في مهاجمة أراضي القوط الغربيين، وأجبروا الكثير منهم على الهروب والاحتماء بالرومان. وفي تلك الفترة، شكّلت قبائل الهون كابوساً بالنسبة إلى القبائل الأخرى التي هاجرت إلى الإمبراطورية الرومانية بسببها.
تشير بعض المصادر إلى أن الهون كانوا مختلفين جسدياً عن أيٍّ من الشعوب الأخرى التي واجهها الرومان من قبل، ما زاد من تأثير الخوف الذي غرسوه في قلوب خصومهم. حتى إن بعض الهون لجأوا إلى ذلك الإجراء الطبي، الذي ينطوي على ربط جمجمة الأطفال الصغار لتصبح أطول من المعتاد. ومن هنا كان شكلهم مختلفاً عن غيرهم.
وتشير تحليلات العدد القليل المعروف من كلمات قبائل الهون إلى أنهم استخدموا إحدى اللغات القديمة جداً لشعوب الترك، وقد انتشرت تلك العائلة اللغوية في أنحاء آسيا، من هضبة منغوليا إلى منطقة سهول آسيا الوسطى.
وصف المؤرخ الروماني أميانوس مارسيليانوس قبائل الهون بقوله: "عتادهم خفيف يجعل حركتهم سريعة، وأعمالهم غير متوقعة. ينقسمون فجأة إلى مجموعات متفرقة ويهاجمون، ويثيرون الاضطراب هنا وهناك، ويتسببون في مذابح بشعة…".
أتقن الهون أسلوب الغارات السريعة، وكانوا قادرين على التحرك في مجموعاتٍ من الجنود، يطلقون مئات الأسهم (وهم يقودون الخيول) ثم التراجع، دون الاشتباك مع أعدائهم من نطاق قريب.
وعندما يدنون من الجنود الآخرين، كانوا يستخدمون الحِبال لإسقاط أعدائهم أرضاً، ثم يقطعونهم إلى أشلاء بالسيوف. كانت طريقة قتالهم أشبه بحروب العصابات، عندما تواجه جيوشاً نظاميّة.
طوّرت هذه القبائل أيضاً معدّات حصارٍ قوية، بحيث أصبح أفرادها مع الوقت "خبراء في إسقاط المُدن"، من خلال استخدام أبراج الحصار ومدقّ رأس الكبش الشهير، وهو عبارة عن آلة تُشبه رأس الكبش وتُستخدم لضرب الجدران وبوابات المدن بهدف شقّها.
وصول الهون إلى الإمبراطورية الرومانية
شنّ الهون أولى غاراتهم على المقاطعات الرومانية عام 395، وتمكنوا من سلب وإحراق مساحات شاسعة من شرق الإمبراطورية الرومانية في منطقة البلقان. وقد دمرت منطقة البلقان بشكلٍ خاص، كما خضعت أراضي الحدود الرومانية الشرقية لتلك القبائل تماماً.
استقرّوا في شرق الإمبراطورية الرومانية لفترة طويلة، لكنّ حياة البدو الرُحّل، التي تجعلهم يرتحلون بشكلٍ مستمرّ، سلبتهم إحساس الراحة والاستقرار. فقرر ملوك الهون التوقف وتأسيس إمبراطورية على حدود روما.
تمركزت مملكتهم حول ما يُعرف الآن بالمجر، ولا يزال حجمها محل خلاف بين الباحثين، لكن يبدو أنها غطت مساحات شاسعة من وسط وشرق أوروبا.
وبحلول مُنتصف القرن الخامس، كان أتيلا الهوني -وهو أشهر قادة شعوب الهون على الإطلاق- قد أنشأ إمبراطوريةً امتدت من دول البلطيق (نواحي ليتوانيا ولاتفيا) إلى منطقة البلقان (ألبانيا وصربيا وشمال تركيا)، ومن نهر الراين في النمسا إلى البحر الأسود في أوكرانيا.
لكنّ هذه الإمبراطورية لم تكن متماسكةً بحال، فلم تكن أكثر من "ائتلافٍ مُخلخل" من القبائل التي ارتبطت معاً بفضل شخصية أتيلا الهوني وسيطرته وبراعته العسكرية.
ورغم سيطرتها على شرق أوروبا، وتكليفهم خسائر فادحة للإمبراطورية الرومانية، فإنها اختارت عدم الدخول في صراعٍ متكامل مع الإمبراطورية العجوز، وإنما بدلاً من ذلك قررت شنّ غارتٍ محدودة لسلب ونهب أراضي الإمبراطورية على فتراتٍ متباعدة. وكان هذا "تكتيكاً" خاصاً بـ"أتيلا الهوني".
من هو أتيلا الهوني؟
وُلد أتيلا الهوني لعائلةٍ من الطبقة الحاكمة في قبائل الهون، وقد حاز الحكم هو وأخوه الأكبر عام 434، ولكنّ أخاه قد توفي بشكلٍ مفاجئ عام 445. ويلمّح بعض المؤرخين إلى أن أتيلا تخلّص من أخيه ليحكم وحده.
ووفقاً لموقع Live Science، يوصف أتيلا الهوني بـ"لعنة الربّ الذي جاء إلى هذا العالم لزعزعة الأمم"، لكن الحقيقة هي أن هذه الإمبراطورية ظلّت في أوجها لثماني سنوات فقط، وتلاشت فجأةً بعد وفاة أتيلا عام 453.
كانت استراتيجية أتيلا الهوني مختلفةً عن القادة السابقين، فقد قرّر ألا يدخل في صراعٍ شامل مع الإمبراطورية الرومانية الغربية ولا البيزنطية (الرومانية الشرقية)، بل وجد طريقاً آخر: ابتزاز الأباطرة وتهديدهم، ليدفعوا أكثر.
وخلال القرن الخامس كان الإمبراطور البيزنطي ثيودوسيوس الثاني يدفع للهون 158 كلغ من الذهب سنوياً، ليحمي نفسه من هجماتهم.
وفي عام 442 زادت هذه الكمية إلى 453 كلغ ذهباً خالصاً. وعندما رفض الإمبراطور الدفع عام 447، جاء انتقام أتيلا، حيث قاد جيشه عبر بلاد البلقان، وبدأ في حرق المدن واحدةً تلو الأخرى، إلى أن استسلم الإمبراطور ووافق فوراً على تسوية المتأخرات واستئناف الدفع، لكنّ أتيلا الهوني جعله يدفع 952 كلغ سنوياً هذه المرة.
أصبحت الإمبراطورية الرومانية الشرقية تحت سيطرة أتيلا، بدفعها هذا المبلغ السنوي من الذهب. فوجّه أتيلا الهوني نظره ناحية الإمبراطورية الغربية، بحجةٍ مسلية، لا بل مضحكة. فقد أرسلت له هونوريا، وهي أخت الإمبراطور فالنتينيان الثالث رسالةً له.
كانت هونوريا دخلت في علاقاتٍ عاطفية كثيرة، إحداها كانت مع أمين الخزانة. وما إن اكتشف الإمبراطور تلك العلاقة حتّى أعدم أمين الخزانة وخطب هونوريا لقنصلٍ رومانيٍّ ثري.
أرسلت هونوريا أحد خدمها إلى أتيلا الهوني مع رسالةٍ، طالبةً منه أن ينقذها من زيجتها هذه. وهكذا تحرّك أتيلا الهوني قائلاً إنّه جاء من أجل تخليص عروسته هونوريا من معاناتها، وإن مهرها هو الإمبراطورية الغربية نفسها.
سرعان ما هاجم أتيلا الهوني العديد من المدن الضخمة، لكن بحلول عام 451 جمع الجنرال الروماني أيتيوس جيشاً ميدانياً ضخماً من شعوب القوط والإفرنج والساكسون والبرغنديين وغيرهم من القبائل، وتحالفوا جميعاً على هدفٍ مشترك: حماية أراضيهم الغربية الجديدة ضدّ أتيلا الهوني وهجومه.
بدأت معركة ضخمة في منطقة شمبانيا الفرنسية، في منطقة كانت تعرف آنذاك بسهول كاتالونيان، حيث هُزم أتيلا المهيب أخيراً في معركةٍ ضارية. وقد سجّل المؤرخون 160 ألف قتيل من الجانبين في هذه المعركة.
كُسرت شوكة الهون، لكن الهزيمة لم تدمرهم تماماً، إذ توجّهوا إلى إيطاليا لنهب مدنها قبل العودة إلى مملكتهم. وفي العام القادم عاد أتيلا بجيشه لمهاجمة روما. استولى أتيلا الهوني على الكثير من المدن لكنّ المرض والمجاعة تسبباً في إيقاف الغزو.
لجأ الطرفان للدبلوماسية، فوافق الإمبراطور الروماني على طلبات أتيلا ووعد بتزويجه هونوريا، على أن يقدم لها مهراً من الذهب. وقد غادر أتيلا إيطاليا بعد مغامرة غزو روما، التي كانت آخر غارات الهون على الإمبراطورية الرومانية.
مات أتيلا بعد ذلك بفترة وجيزة في ليلة زفافه عام 453، بسبب نزيفٍ داخليّ على أشهر الروايات، ولكنّ مملكته لم تدُم بعده كثيراً بسبب الصراعات الداخلية،التي أدّت إلى هزيمة الهون مراتٍ عدة على أيدي الرومان وشعوب القوط.