استعملت فيها الغازات السامة ووصفتها بـ”الهولوكوست”! “عام الخلية” حين أبادت فرنسا ثلثي سكان الأغواط الجزائرية

تم النشر: 2022/10/03 الساعة 11:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/11/26 الساعة 14:39 بتوقيت غرينتش
مجزرة الأغواط سنة 1852، التي أبادت فيها القوات الفرنسية ثلثي سكان المدينة/wikipedia commons/

في 5 يوليو/تموز 1830، وقّع حاكم إيّالة الجزائر العثمانية الداي حسين على وثيقة الاستسلام للفرنسيين، كانت تلك الوثيقة التي اصطلح عليها تاريخياً باسم معاهدة دي بورمون، تحمل في طياتها بنوداً تلزم الاحتلال الفرنسي باحترام حرية وديانة الجزائريين وعدم المساس بحقوقهم.

كانت بنود تلك المعاهدة حبراً على ورق، فقد ارتكبت القوات الفرنسية مجازر متتالية في طريقه استكمال احتلالها للجزائر، ولعلّ أبشع مجزرة ارتكبتها تلك القوات، مجزرة الأغواط سنة 1852م، والتي تسمى بعام الخلية، والتي أبادت فيها القوات الفرنسية مدعومةً بكتائب الصباحية ثلثي المدينة الواقعة في الصحراء الجزائرية، واستعملت فيها الغازات السامة.

الأغواط المدينة الثائرة قبل أن يصلها الاحتلال!

عندما احتلت القوات الفرنسية العاصمة الجزائر سنة 1830، لم يكن في اعتقادها أنّ استكمال احتلالها للأراضي الجزائرية سيدوم أكثر من 80 سنة؛ فقد واجه الاحتلال الفرنسي مقاومة شرسة من الجزائريين، من مقاومة الأمير عبد القادر التي اندلعت في الغرب، واستمرت حتى سنة 1847م، ومقاومة أحمد باي في الشرق، والتي توقفت سنة 1848م، ناهيك عن المقاومات الشعبية التي انتشرت في كل بقعة وصلتها القوات الفرنسية. 

كانت مدينة الأغواط الواقعة في الصحراء الجزائرية، قبل دخول القوات الفرنسية إليها، ساحة خلفية لمعظم الحركات الثورية والمقاومات الشعبية التي اندلعت ضد الفرنسيين، فكان المقاوم المصري موسى بن حسن الدرقاوي قد جعل من الصحراء الجزائرية قاعدة لبداية حركته المسلحة لتحرير شمال الجزائر سنة 1831م، حين جمع مقاتلي قبائل الشعانبة وأولاد نايل بمدينة الأغواط، وتوجه بهم إلى الشمال لقتال القوات الفرنسية. 

كانت مدينة الأغواط تمثلّ قاعدة خلفية للثورات الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر /wikipedia commons/

الشيء نفسه، حدث مع مؤسس الدولة الجزائرية الأمير عبد القادر الجزائري، الذي جعل من مدينة عين ماضي بالأغواط مخزناً للأسلحة والتموين سنة 1838م.

ناهيك عن الثورات الشعبية التي كانت مدينة الأغواط مركزاً لها، والتي كانت أبرزها ثورة الشريف محمد بن عبد الله، وثورة أحمد بن سالم الأغواطي، وثورة ناصر بن شهرة، والتي كبّدت القوات الفرنسية خسائر كبيرة، وعطّلت من مسيرة استكمال غزوهم لكامل التراب الجزائري.

"مجزرة الأغواط".. حين أبادت فرنسا ثلثي سكان المدينة

كانت مدينة الأغواط مهمةً جداً للقوات الفرنسية، كونها بوابةً للصحراء من جهة، ومن جهة أخرى معقلاً للثورات الشعبية التي أرهقت كاهل الفرنسيين. ومن هذا المنطلق، شرعت القوات الفرنسية في الإعداد مبكراً لحملتها على تلك المدينة الجزائرية. 

في شهر مايو/أيار 1844م، أرسلت فرنسا أول بعثة استطلاعية إلى مدينة الأغواط، حين أرسلت حامية من 1700 جندي وفارس، لأخذ جولة ببوابة الصحراء.

بعد تلك الجولة، كتب الحاكم الفرنسي العام للجزائر الجنرال بيجو إلى المارشال سولت، وزير الحربية في حكومة نابليون الثالث، رسالة يؤكد فيها على ضرورة احتلال مدينة الأغواط، ذكر بيجو في رسالته ما يلي: "فضلاً عما تقدمه لنا من ثروات فإن المناطق الآهلة في الصحراء هي ضرورية لسياستنا وتجارتنا، كما يجب أن نسود في كل مكان ساد فيه الأمير عبد القادر… وبسيطرتنا على هذه المناطق تفتح لنا آفاق واسعة الازدهار، ونعمل على حرمان عبد القادر من المصادر التي يمكن أن يجدها في هذه الأماكن".

كانت رسالة الجنرال بيجو مقدمةً للحملة الفرنسية على مدينة الأغواط، ففي مارس/آذار 1852م، توجهت بعثة عسكرية ثانية إلى المدينة، وهناك وجدت الثائر الجزائري الشريف محمد بن عبد الله قد اتخذ رفقة الثائر الناصر بن شهرة مدينة الأغواط عاصمةً لمقاومتهما.

لوحة فنية تجسّد الهجوم الفرنسي على مدينة الأغواط سنة 1852 /wikipedia commons/

كان هذان الأخيران قد كبّدا فرنسا خسائر كبيرة طوال أشهر من المقاومة، لذلك وضعت فرنسا القضاء عليهما وعلى ثورتهما أولوية قصوى.

في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 1852، قررت فرنسا شنّ هجومٍ كاسحٍ على المدينة، من أجل احتلالها والقضاء على الشريف محمد بن عبد الله وناصر بن شهرة.

بعد يوم من ذلك، حوصرت المدينة بثلاثة جيوش فرنسية، من الغرب كتائب تحت قيادة قائد الحملة الجنرال بليسي، ومن الشمال جيش من كتائب الزواف بقيادة الجنرال يوسف، ومن الشرق جيش بقيادة الرائد بان.

قابل ثوار مدينة الأغواط، الحصار الفرنسي بمقاومة شرسة كبدوا فيها الجيش الفرنسي خلالها خسائر فادحة، منها مقتل الجنرال بوسكرين على يد المقاومين الجزائريين.

ردّ الجيش الفرنسي كان قاسياً، فشرع في 3 ديسمبر/كانون الأول في قصف مدفعي كثيف على مدينة الأغواط، استعمل في القصف قذائف معبأة بالكلوروفورم، وهي مادة كيميائية سامة، إذ يؤدي استنشاقها إلى حدوث اختناقٍ شديدٍ يؤدي إلى موت الضحية.

بعد القصف المكثف، تحوّلت المعركة إلى معركة شوارع، استعمل فيها الجيش الفرنسي كل قوته. 

سقط في هذه المجزرة نحو 2500 قتيل جزائري من مجموع 3600 ساكن، أي إنّ القوات الفرنسية قتلت ثلثي سكان المدينة خلال هذه المجزرة.

وبعد يوم واحدٍ من المجزرة، سقطت مدينة الأغواط في يد الاحتلال الفرنسي، برر الجنرال بليسي همجية قواته خلال تلك المعركة، بضرورة أن تكون مدينة الأغواط عبرة للمدن الصحراوية الأخرى التي ترغب في مقاومة القوات الفرنسية.

وصفها الفرنسيون بالهولوكوست!

يذكر المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان في كتابه "تاريخ الجزائر المعاصرة"، أنّ القوات الفرنسية ظلت لمدة 3 أيام تجمع في الجثث في أكياس، ثم تقوم بحرقها، ويضيف الكاتب، أنّ القوات الفرنسية كانت تجمع جثث الجزائريين مع جثث الحيوانات وتقوم برميها في الآبار، حتى ظلت النسور والغربان تحوم حول المدينة لمدة شهرٍ كاملٍ من فظاعة المجزرة.

في كتابه "رسائل مؤلفة عن الجزائر"، يقول الرائد الفرنسي "بان" أحد مرتكبي المجزرة: "المذبحة كانت بشعة، الشوارع كانت مغطاة بالجثث. كان الجنود الفرنسيون مثل القطط، ينتقلون من بيت إلى آخر، ويطلقون النار دون تمييز من حيث الجنس أو السن".

بينما أرسل الجنرال بليسي قائد الحملة الفرنسية على الأغواط، تقريراً ميدانياً عن المجزرة إلى الجنرال ريفي القائد العام للقوات الفرنسية بالجزائر، وصف فيه مجزرة الأغواط بالهولوكوست حين قال في رسالته ما يلي: "كانت المجزرة رهيبة، المساكن والخيام والأزقة والطرقات مليئة بجثث الموتى، أحصي أكثر من 2300 قتيل بين رجال ونساء وأطفال. لقد كان لزاماً على فرنسا لهذا الهولوكوست لتثبت عظمتها للقبائل المحاربة في الصحراء".

عرفت هذه الفاجعة في الذاكرة الشعبية بالجزائر بـ"عام الخلية"، أو عام "الشكاير"، وذلك كناية عن المجزرة المروعة التي شهدتها مدينة الأغواط سنة 1852.

تحميل المزيد