عندما نتحدث عن الإمبراطور الروماني نيرون، تخطر على بالنا على الفور صورة الطاغية واقفاً على قمة تلة عالية، وهو يشاهد روما تحترق، يغني ويعزف الكمان منتشياً كلما تصاعدت ألسنة اللهب وأكلت مساحات أكبر من المدينة! لكن هل تصوراتنا عن نيرون دقيقة تماماً؟
هل عزف نيرون الكمان فعلاً على أطلال روما المحترقة؟
وُلِدَ نيرون في 15 ديسمبر/كانون الأول عام 37 بعد الميلاد. وأصبح خامس إمبراطور لروما والأخير من السلالة اليوليوكلاودية، التي أسست الإمبراطورية، وفقاً لعالمة الآثار فرانشيسكا بولونيا التي رعت مشروع نيرون في المتحف البريطاني بلندن.
وكان نيرون يبلغ من العمر عامين عندما نفى الإمبراطور كاليغولا والدته أغريبينا الصغرى، حفيدة أول أباطرة الإمبراطورية أغسطس. بينما تُوفي والده جناوس دوميتيوس اهينوباربوس عندما كان نيرون في الثالثة من عمره، وتركه في كنف عمته. ثم التم شمل نيرون مع أغريبينا مرةً أخرى بعد قتل كاليغولا عام 41 بعد الميلاد، وخلافة الإمبراطور كلوديوس له. وأوضحت فرانشيسكا أن أغريبينا تزوجت عمها كلوديوس لاحقاً.
وأنجب كلوديوس ابناً من صلبه، لكنه عيّن ابن أخيه وزوجته نيرون وريثاً لعرشه. ثم صعد نيرون إلى العرش عام 54 بعد الميلاد وهو في الـ16 من عمره. لكن فترة حكم نيرون كانت قصيرة، حيث انتحر عام 68 بعد الميلاد وهو في الـ30 من عمره.
وقال المؤرخون الرومان إن نيرون الذي قتل أغريبينا واثنتين من زوجاته لم يكن مهتماً سوى بالفن، ولم تكن لديه رغبة كبيرة في حكم الإمبراطورية بحسب فرانشيسكا.
لكن هارولد دريك، الأستاذ الباحث الفخري في التاريخ بجامعة كاليفورنيا سانتا باربرا، قال لموقع Live Science الأمريكي: "تأتي جميع مصادر معلوماتنا عن نيرون من أشخاصٍ كانوا يكرهونه". وأوضح أن علينا الانتباه لفكرة أن سمعة نيرون في أذهاننا "كتبها خصومه". وتتفق فرانشيسكا مع هذا الرأي، حيث كتبت في منشور للمتحف البريطاني أن الروايات المتداولة عن نيرون "كانت مهتمةً بتقديمه في أسوأ صورة ممكنة".
وأوضح دريك أن نيرون كان يقضي عطلته في أنتيوم (التي تُعرف اليوم بأنسيو في إيطاليا) عندما علم بأمر حريق روما الكبير. ويُذكر أن الحريق الكبير تسبب في تفحم 10 من أحياء روما الـ14 خلال أسبوع، وخسر الآلاف كل شيء داخل المدينة التي تراوح تعداد سكانها بين 500 ألف ومليون نسمة.
ما فعله نيرون يختلف تماماً عما يدور في مخيلتنا
وفي واقع الأمر هرع نيرون عائداً إلى روما عندما عرف خبر الحريق، وبالتأكيد لم يخطر له أن يغني ويعزف على الأطلال بل بدأ في تجهيز ملاذ طوارئ وإمدادات طعام وشراب للعامة، كما فتح قصره بحدائقه كملجأ، وفقاً لما قاله دريك.
وفي أعقاب حريق روما الكبير، عرض نيرون حوافزه المالية على أصحاب الأراضي من أجل تنظيف عقاراتهم من الحطام وبدء عملية إعادة البناء. لكنه ألزمهم باستخدام الحجر بدلاً من الخشب، وتمهيد الشوارع وتوسعتها، وضمان توفير إمدادات مياه مناسبة للمدينة. وتساءل دريك: "هل تبدو هذه الخطوات كتصرفات رجل مجنون؟".
لكن إذا لم يكن نيرون موجوداً داخل روما عندما اندلع الحريق، فما أصل الشائعة التي تقول إنه "عزف الكمان" أثناء احتراق عاصمة الإمبراطورية؟
كان نيرون يرى في نفسه موسيقياً موهوباً. وتقول الشائعة إنه كان يواسي نفسه بالغناء أثناء قيامه بجهود الإغاثة. وكانت أغنيته تروي قصة سقوط طروادة، وهي إحدى حكايات هوميروس التي تدور حولها قصيدة الإنيادة للشاعر الروماني فيرجيل.
وقال دريك: "كان نيرون قد فعل كل ما بوسعه لاحتواء الحريق، ويشعر بالإنهاك. ونظراً لكونه فناناً بدأ يعزي نفسه بالمقارنة بين هذه الكارثة وبين سقوط طروادة، التي يحب الرومان أن يتصوروا أنهم ينحدرون من نسلها عبر سلفهم الأسطوري إينياس".
وحتى لو كان نيرون قد عزف الموسيقى أثناء حريق روما، فمن المستبعد أن يكون قد استخدم الكمان لأن الآلات الوترية لم تشتهر إلا بعد هذه الحادثة بـ1,000 عام أخرى وفقاً لدريك. وأوضح دريك أن نيرون ربما استخدم قيثارة للترويح عن نفسه، وهي أداة موسيقية تتألف من سبعة أوتار.
نيرون لم يكن الوحيد
وسبق للرومان أن تصرفوا بمثل هذه الطريقة من قبل؛ إذ كتب المؤرخ بوليبيوس أن الجنرال الروماني سكيبيو إميليانوس وقف ليشاهد قرطاج وهي تحترق، بينما كان يردد بيتاً من قصيدة الإلياذة للشاعر هوميروس يقول فيه: "سيأتي وقتٌ تسقط فيه طروادة، وبريام، وأصدقاء بريام من أصحاب الرمح الرمادي الجيد". وأوضح دريك: "لم يكن يفكر في قرطاج وقتها، بل كان يعبر عن مخاوفه من مصير مشابه ينتظر الرومان".
لكن لماذا يتذكر التاريخ نيرون باعتباره حاكماً سيئاً؟
يستقي العالم المعاصر معرفته بنيرون اليوم من مصدرين: أعضاء مجلس الشيوخ الروماني وأتباع الديانة المسيحية. ويمكن القول إن نيرون كان يُعتبر عدواً بالنسبة للفئتين.
وأوضح دريك: "اعتاد أعضاء مجلس الشيوخ الانغماس في محاولات استعادة الجمهورية. ولهذا كانوا يتورطون في مؤامرات الاغتيال أحياناً، ثم يثور غضبهم عندما يأتي رد فعل الإمبراطور عدائياً".
أما بالنسبة للمسيحيين، فيقول عضو مجلس الشيوخ والمؤرخ الروماني تاسيتس إن نيرون بحث عن كبش فداء في المسيحيين، نتيجة بدء انتشار شائعة حول كونه المسؤول عن الحريق. ولهذا صُلِبَ الكثيرون حتى الموت، أو ماتوا بالحرق وغيرها من الوسائل؛ مما دفع المسيحيين لتحميل نيرون مسؤولية هذا الاضطهاد الذي أوقعته عليهم الإمبراطورية الرومانية.
هل كان نيرون مجنوناً في نهاية المطاف؟
ربما لم يكن نيرون مجنوناً في النهاية، "لكن لا خلاف على أنه فقد اتزانه بشكلٍ متزايد" على مدار فترة حكمه، وفقاً لدريك. وحاولت مجموعةٌ من النبلاء اغتياله بعد حريق روما الكبير، فازداد جنون شكّه أكثر وفقاً لحارث البستاني مؤلف كتاب "نيرون وفن الاستبداد"، وبدأ سلسلة من الاغتيالات لم تسلم منها حتى والدته.
وكانت حجة نيرون في التخلص من والدته في عام 59م، أنها كانت تخطط لقتله، ورغم إدراك نيرون للمشاكل التي قد تسببها له جريمة كهذه، فقد كانت الأم الأكثرَ قداسة بين رموز الأسرة الرومانية، إلا أنه مضى في مخططه بكل الأحوال. في البداية أمر نيرون قواته البحرية بإغراق قارب كانت والدته تبحر فيه، ولما استطاعت أغريبينا أن تنجو بنفسها وتسبح إلى الشاطئ، أمر نيرون حراسه بقتلها بشكل مباشر.
وبالرغم من ذلك، لا يزال المؤرخون في العصر الحالي يعتقدون أن لنيرون وجهاً لا يعرفه معظمنا؛ لأن تاريخه كُتب على أيدي أعدائه وكارهيه.