في غرب إفريقيا كانت غانا بداية القرن العشرين إحدى المستعمرات البريطانية الكبرى، المعروفة في ذلك الوقت بـاسم "ساحل الذهب"، والمشهورة بمزارعها الخصبة، وكونها أكبر مُنتجٍ للكاكاو في العالم.
وقعت غانا تحت الاستعمار البريطاني في العام 1896، الذي استمرّ 6 عقود، لتنهض ضدّه حركة مقاومةٍ كُبرى -داخل البلاد وخارجها- من أجل الحصول على الاستقلال.
في ظلّ تلك الأجواء نشأ وترعرع "كوامي نكروما"، أحد أبرز المناضلين الأفارقة الأوائل ضدّ الاستعمار البريطاني، والذي سيُصبح فيما بعد أول رئيسٍ لدولة غانا بعد أن يُعلن استقلال بلاده، وقبل أن ينقلب عليه الجيش.
تعالوا نتعرّف، في هذا التقرير، على تلك الشخصية التي كانت من أبرز دعاة الوحدة الإفريقية وواحدة من مؤسّسي "منظمة الوحدة الإفريقية"، قبل إسدال الستار عنها في يوليو/تموز 2002.
لاهوتي اشتراكي وماركسي.. الشاب كوامي نكروما
وُلد كوامي نكروما في العام 1909، وترعرع ليتلقى تعليمه المُبكر على أيدي مبشّرين كاثوليك في مدرسة الروم الكاثوليك الابتدائية القريبة من منزله، حيث بقيَ 9 أعوام قبل أن يلتحق فيما بعد بكلية "أخيموتا" في أكرا -عاصمة غانا- الأمر الذي أهّله لأن يُصبح مدرّساً في المدارس الابتدائية الكاثوليكية الرومانية، وفي معهد اللاهوت أيضاً.
ورغم أنه كان يُحرز تقدماً جيداً في مهنته كمدرّس، فإنه كانت لنكروما خططٌ أخرى لمستقبله؛ وبسبب تعلّقه بالسياسة ودهاليزها قرّر الذهاب إلى الولايات المتحدة والدراسة هناك.
لم يكن في استطاعته السفر على نفقته الخاصة، فعمل على جمع المال من أقاربه، لينجح في النهاية بجمع المال المطلوب والتوجّه إلى "أرض الأحلام"، على متن باخرة في العام 1935. وصل كوامي نكروما في بادئ الأمر إلى نيويورك، إلا أنه توجه لاحقاً إلى بنسلفانيا ليلتحق بجامعة لينكولن، وهي أَقدَم كليّة للسود في الولايات المتحدة، والتي كانت تأسّست قبل الحرب الأهلية.
عام 1939، حصل نكروما على بكالوريوس في الاقتصاد وعلم الاجتماع، وبحلول عام 1942، حصل على بكالوريوس في اللاهوت، وبعدها بعام نال درجة الماجستير في الفلسفة، وبدأ في تجهيز نفسه لرسالة الدكتوراه.
ووفقاً لموقع Black History Heroes، فقد تأثر الشاب كوامي نكروما في فترة دراسته تلك بمبادئ الاشتراكية وتعلّق بأفكار كارل ماركس وفلاديمير لينين وماركوس جارفي، الزعيم الأمريكي الأسود في عشرينيات القرن الماضي.
لكن نكروما وصف نفسه في نهاية الأمر بأنه "مسيحي غير طائفي واشتراكي ماركسي". كما انغمس في العمل السياسي الأمريكي، وأصبح رئيساً لمنظمة الطلاب الأفارقة في الولايات المتحدة وكندا.
وبحسب موسوعة Britannica الإنجليزية، فإن أجواء جامعة لينكولن أثّرت في تكوين شخصيته. فقد أدرك فيها نكروما الفرق الحاد بين الأعراق المختلفة، داخل المجتمع الأمريكي، وأزمة العنصرية فيه.
ومن أجل ذلك انغمس في مجتمعات السود هناك، على عكس معظم المهاجرين الأفارقة للولايات المتحدة في تلك الفترة، الذين كانوا يسعون إلى التقرّب من مجتمعات البيض وتكوين صداقات مع العديد منهم، كما تردّد كثيراً على كنائس السود في نيويورك وفيلادلفيا.
في إطار نشاطه داخل المجتمع الأمريكي الأسود أقام كوامي نكروما علاقات مع العديد من المثقفين الأمريكيين السود، التي كانت إفريقيا بالنسبة لهم في ذلك الوقت مجالاً ذا أهمية في دراسات التغيير السياسي.
وفي عام 1945، غادر نكروما الولايات المتحدة ليتجه إلى بريطانيا، حيث استطاع تنظيم "المؤتمر الإفريقي الخامس" في مانشستر، الذي كان يربط فيها مجموعات المثقفين في الدول الإفريقية المستعمرة ببعضهم البعض، وبالنشطاء والكتاب والفنانين من العالم الغربي مثل: عالم الاجتماع والكاتب الأمريكي الأسود دبليو إي بي دوبوا، والرئيس المقبل لكينيا جومو كينياتا، والممثل والناشط الأمريكي بول روبسون.
حزب المؤتمر الشعبي والسعي وراء الاستقلال
عندما حصلت الهند على استقلالها عام 1947، ثار تفاؤل كوامي نكروما لحصول ساحل الذهب على الاستقلال، وقال بهذا الصدد: "إذا حصلنا على حُكمٍ ذاتي فسوف نحوّل ساحل الذهب إلى جنة خلال 10 سنوات".
في هذه الأثناء أعلن المحامي والسياسي الغاني "جيه بي دانكوه" عن اتفاقية ساحل الذهب المتحدة، والتي سعى بمقتضاها لتنظيم العمل ضدّ الاستعمار، من أجل الحصول على الحكم الذاتي بالوسائل الدستورية في غانا، وبدوره طلب دانكوه من نكروما أن يصبح سكرتيراً لتلك الحركة.
لذا وبصفته السكرتير العام للحركة عاد نكروما إلى البلاد في 1947، ليبدأ في إنشاء قاعدة جماهيرية للحركة الجديدة. وفي فبراير/شباط 1948 وقعت أعمالُ شغب واسعة النطاق في ساحل الذهب، ما أدى إلى اعتقال القوات البريطانية لنكروما ودانكوه وقادة الحركة لفترة وجيزة.
وفي تلك المرحلة، نشب الانقسام بين نكروما وأنصاره وبين دانكوه، الأمر الذي أدى إلى انفصال نكروما عن الحركة والعمل على تأسيس حزبه الخاص.
وبالفعل، أسّس كوامي نكروما -وبمشاركة العديد من أصدقائه وأنصاره- حزب "المؤتمر الشعبي"، في يونيو/حزيران 1949، بهدف مقاومة سلطات الاستعمار البريطاني عن طريق فرض الإضرابات، وعدم التعاون مع السلطات الاستعمارية والاحتجاجات غير العنفية.
نتيجةً لذلك تعطلت الخدمات في جميع أنحاء البلاد، ما أدى إلى اعتقال نكروما مرةً أخرى والحكم عليه بالسجن لمدة عام، إلا أن الانتخابات العامة الأولى لساحل الذهب في 8 فبراير/شباط 1951، أظهرت التأييد الكبير من المجتمع الغاني لحزب المؤتمر الشعبي، حيث انتُخب نكروما لعضوية البرلمان وهو داخل السجن.
أصبح كوامي على إثر ذلك زعيماً للأعمال الحكومية، وأُطلق سراحه، وفي مارس/آذار 1952 أصبح نكروما رئيس وزراء ساحل الذهب.
زواج كوامي نكروما من المصرية فتحية رزق
بالرغم أن سياسة حكم نكروما وُصفت بأنها سلطوية، إذ كانت حكومته تزجّ بالمعارضين في السجون من دون محاكمة، فإن شعبيته بقيت واسعة النطاق داخل البلاد، بعدما سعى إلى بناء طرقٍ ومدارس ومرافق صحية جديدة، وهو الأمر الذي خلق فرصاً وظيفية أفضل للمواطنين.
وفي 6 مارس/آذار 1957، أعلن نكروما اعتماد اسم "غانا" بدلاً من "ساحل الذهب"، وأعلن البلاد دولةً مستقلة عن الاستعمار البريطاني. ومن خلال استفتاءٍ أقيم عام 1960، أصبحت غانا "جمهورية"، وأصبح كوامي نكروما أول رئيسٍ لها، مع صلاحيات تشريعية وتنفيذية واسعة بموجب الدستور الجديد.
ركز نكروما جهوده على إنشاء منظمة تضمن الوحدة السياسية لإفريقيا السوداء، وهو ما أفرز منظمة الوحدة الإفريقية (OAU) في عام 1963، التي لعب نكروما دوراً محورياً في تأسيسها، وهو نفس العام الذي حصل فيه نكروما على جائزة لينين للسلام.
كما تفاوض على إنشاء اتحاد الدول الإفريقية، وهو تحالف سياسي بين غانا وغينيا ومالي، واتبع في أجندته الخارجية سياسة عدم الانحياز مع الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت.
ومن أجل تحقيق رؤيته للوحدة الإفريقية، قرر نكروما البحث عن زوجة في أي من الدول الإفريقية الأخرى، ووقع اختياره على مصر بسبب الصداقة التي كانت تجمعه بالرئيس المصري جمال عبد الناصر، بسبب مشاركتهما الأفكار الاشتراكية نفسها.
في هذا الإطار وقع اختيار نكروما على "فتحية حليم"، وهي شابة مصرية كانت في منتصف العشرينيات وتسكن بحيّ الزيتون-القاهرة. والدها كاتبٌ قبطي، أما فتحية فقد تخرّجت من مدرسة راهبات سيدة الرسل، لتُكمل تعليمها في جامعة القاهرة متخصّصةً في دراسة اللغة العربية.
لم تكن فتحية تجيد التحدث باللغة الإنجليزية، لذا عمل كوامي نكروما على تعليمها اللغة للتأقلم مع ثقافة بلدها الجديد غانا.
أنجبت منه ثلاثة أطفال هم: جمال (على اسم الرئيس المصري)، وسامية، وسيكو. ومع مرور الوقت بدأت فتحية بالظهور في الوظائف العامة في البلاد، وشغلت منصب الراعي الرئيسي للمجلس الوطني لنساء غانا، والرئيسة الفخرية لمرشدات غانا.
من الاستقلال إلى السلطوية.. الانقلاب على نكروما
تحت قيادة نكروما تبنّت غانا بعض السياسات والممارسات الاشتراكية، وانخرطت في مشاريع إنمائية كبرى، لكنها كانت مدمرة في كثير من الأحيان. فتحوّلت الدولة، التي كانت مزدهرة في بداية حكم نكروما، إلى مشلولة ومثقلة بالديون الخارجية، وهو ما أدى إلى التخلّي عن خطة التنمية التي بدأها نكروما وأعلن عنها في العام 1959.
عام 1961، عندما ارتفع العجز في ميزان المدفوعات إلى أكثر من 125 مليون دولار، انكمش الاقتصاد؛ ما أدى إلى اضطراباتٍ عمالية واسعة النطاق وإلى إضرابٍ عام في سبتمبر/أيلول؛ دفع نكروما لأن يبدأ في تطوير جهازٍ أمني أكثر صرامة للسيطرة على البلاد، كما أنه توجّه بشكلٍ متزايد إلى الدول الشيوعية للحصول على الدعم.
وبسبب محاولات الاغتيال العديدة التي تعرّض لها، خاصةً التي وقعت بكولوغونجو، في أغسطس/آب 1962، عُزل كوامي نكروما بشكلٍ متزايد عن الحياة العامة ما عزّز طبيعة الحكم السلطوي الذي أدّى بدوره إلى بسط القبضة الأمنية في البلاد أكثر وأكثر.
بحلول عام 1964، أصبحت غانا تعمل بسياسة دولة الحزب الواحد التي جعلت من نكروما رئيساً مدى الحياة. في تلك الفترة انشغل نكروما بتكوين جيلٍ جديد من النشطاء السياسيين الأفارقة السود.
في غضون ذلك تفاقمت الأزمة الاقتصادية في غانا، وأصبح النقص في المواد الغذائية والسلع الأخرى مزمناً. في 24 فبراير/شباط 1966، وبينما كان يزور بكين، استولى الجيش مع الشرطة على السلطة في غانا.
لجأ نكروما إلى غينيا، حيث عاش بالمنفى في كوناكري ضيفاً على الرئيس أحمد سيكو توري، الذي جعله رئيساً فخرياً للبلاد، في حين فرّت فتحية وأطفالها الثلاثة على متن طائرةٍ أرسلها جمال عبد الناصر.
لم يعد كوامي نكروما إلى غانا طوال حياته المتبقية، لكنه واصل الضغط من أجل تحقيق رؤيته للوحدة الإفريقية. وفي مذكراته "الأيام المظلمة في غانا"، لمح إلى تواطؤٍ أمريكي مُحتمل في الانقلاب الذي حدث ضدّه، قبل أن يموت في 27 أبريل/نيسان 1972، بعد صراعٍ مع مرض السرطان في بوخارست.