في ذلك الفاصل المائي بين قارتَي أوروبا وإفريقيا، كتبت البحرية العثمانية فصولاً من التاريخ، بانتصارها في عدة معارك بحرية ضد الأساطيل الأوروبية، توجتها قوة بحرية مهيمنة على المتوسط طيلة عقود من الزمن.
ويقف وراء سيطرة الأسطول العثماني على الملاحة في المتوسط عشرات البحارة والريّاس الذي قادوا السفن الحربية العثمانية في معاركها وغزواتها، أبرز هؤلاء البحار العثماني سنان ريّس، ذو الأصول اليهودية، والذي لجأ من الأندلس، ليكتب سيرة طويلة مرصعة بالإنجازات مع رفيقه خير الدين بربروس
"سنان ريس" البحار الذي لجأ إلى الدولة العثمانية لينتقم من الإسبان
لا تذكر المصادر التاريخية عن المراحل الأولى من حياة سنان ريس شيئاً، سوى أنه وُلد سنة 1492م لعائلة يهودية من يهود السفارديم، الذين فروا من الأندلس في القرن الخامس عشر الميلادي، هرباً من محاكم التفتيش التي ارتكبتها الممالك المسيحية في حق مسلمي ويهود الأندلس.
خلال تلك الفترة التي أعقبت سقوط الأندلس في يد الممالك المسيحية، يشير المؤرخ بسام العسلي في كتابه "خير الدين بربروس والجهاد فى البحر"، أنّ البحارة العثمانيين بقيادة الإخوة بربروس، كانوا يعملون على إنقاذ اللاجئين المسلمين واليهود، من بطش الإسبان، وكانت عائلة سنان ريّس، أحد الذين تمّ إنقاذهم من طرف البحارة العثمانيين.
فقد كان يعيش في الأندلس تحت حكم المسلمين، نحو مليونين من اليهود، هاجر أكثر من مليون و800 ألف منهم إلى المغرب الإسلامي والدولة العثمانية.
وبحسب المرجع السابق، تأثر سنان ريس بقصص الفظائع والأهوال التي كانت ترتكب في حقّ اليهود والمسلمين العالقين في الأندلس، وقرّر ركوب البحر، من أجل إنقاذ اليهود العالقين في الأراضي الأندلسية والانتقام من الإسبان، فانضم إلى البحارة العثمانيين الذين كانوا يقودون حملات إنقاذ المسلمين واليهود بالأندلس.
عمل سنان في بداية حياته بحاراً مع الأسطول العثماني، وحققّ الكثير من الانتصارات على الأساطيل الإيطالية والإسبانية، حتى ذاع صيته، حتى إنّ إنجلترا قامت بإصدار عملة عام 1533 تخلّد سنان ريس.
سنان ريس كان سبباً في استقرار الحكم للعثمانيين بالجزائر وتونس
انضم سنان ريس مبكراً إلى الإخوة بربروس كما سبق أن ذكرنا، وصار أحد أذرع أشهر البحارة العثمانيين في المتوسط ومشاركاً لهم في غزواتهم وحملاتهم البحرية على الإسبان.
وبينما كان خير الدين بربروس يشرع في حملاته لتحرير سواحل شمال أفريقيا من الإحتلال الإسباني، كلّف سنان رايس أكثر من مرة بتنظيم حملات لإنقاذ المسلمين واليهود العالقين في المتوسط وجلبهم إلى سواحل الجزائر وتونس انطلاقاً من مدينة جيجل.
ويذكر المؤرخ الجزائري محمد دراج بأنّه في إحدى المرات، مُنع سنان ريس من إنزال اللاجئين المسلمين واليهود بميناء الجزائر من طرف حاكمها ابن القاضي، والذي كان قد استولى على حكم الجزائر سنة 1520 بعد هزيمته لبربروس، واضطرار هذا الأخير إلى الرجوع إلى قاعدته في مدينة جيجل.
كان ذلك أحد الأسباب التي دفعت بخير الدين بربروس إلى العودة إلى الجزائر، وإنهاء حكم عائلة ابن القاضي بها سنة 1527 ليستقر بعدها الحكم لبربروس.
وبعد أن استتب الأمر لخير الدين بالجزائر، اتجه شرقاً إلى تونس التي كان يحكمها السلطان الحفصي أبو عبد الله الحسن المتهم بعمالته للإسبان فكان لسنان ريّس دورٌ كبيرٌ في تحرير ونجدة التونسيين من الحفصيين والإسبان.
وفي هذا السياق، يذكر المؤرخ التونسي محمد بيرم في رحلته الفريدة "صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار"، أنّه بعد أن كثرت تحرشات الإسبان والإيطاليين بسواحل المغرب العربي، أمر السلطان العثماني سليمان القانوني، البحار سنان ريس بالتوجه بأسطوله إلى تونس بناءً على طلب أهاليها لإنقاذهم من الغزاة الإسبان وعملائهم الحفصيين.
عرّج سنان ريس في طريقه إلى تونس، على مدينة طرابلس التي كان يتربص بها الإيطاليون، وتمكن من إنقاذها منهم، وبعدها واصل طريقه إلى تونس.
وفي هذا الصدد يقول محمد بيرم الذي عاصر الأحداث أنّ سنان باشا "أنقذ تونس من الإسبان وعملائهم الحفصيين، ورتب بها جنداً من عسكر الإنكشارية قدره أربعة آلاف وعلى كل مائة رئيس".
أشاد خير الدين بربروس سنان باشا كثيراً في معركة تحرير تونس إذ يقول في مذكراته: "في هذه الأثناء سقطت قلعة حلق الوادي، إلا أن سنان ريس تمكن من الانسحاب إلى المدينة بمن بقي معه من البحارة الأتراك لينضم إلينا… لقد استحق سنان ريس تقديراً كبيراً بذلك الانسحاب بعدما قطعت الأمل في نجاتهم، إن كفاءته العالية مكنته من إنقاذ البحارة من الطوق الذي ضربه عليهم العدو".
خطة سنان ريس تحسم معركة بريفيزا كبرى انتصارات الدولة العثمانية البحرية
في القرن السادس عشر الميلادي، اشتد الصراع بين الدولة العثمانية والدولة الأوروبية، ونجحت البحرية العثمانية في فرض نفسها قوة أساسية في المتوسط.
ولإنهاء هذا الواقع، أجرى بابا روما بول الثالث اتصالاتٍ مُكثَّفة مع زعماء أوروبا الكاثوليكية، ونجح في تشكيل تحالف أوروبي كبير، ما عُرِف بـ"أسطول العُصبَة المُقدَّسة"، بزعامة إمبراطور إسبانيا والدولة الرومانية المقدسة شارل الخامس.
كان الهدف من هذا الحشد البحري الضخم هو تدمير الأسطول العثماني في البحر المتوسط، والقضاء على أسطورة خير الدين بربروس وبحارته. ومُنِحَت القيادة العامة لأسطول العصبة المقدسة للبحار الجنَوي الشهير أندريا دوريا، أبرز خصوم خير الدين بربروس في البحر المتوسط وذلك بحسب ما يذكره بارباروسا في مذكراته.
كان برفقة خير الدين في هذه المعركة، أمهر وأشهر البحارة العثمانيين، أبرزهم تورغوت باشا وسنان ريس الذي كان له دور حاسم في المعركة.
برز ذكاء سنان ريس في المعركة، حين نصح خير الدين بربروس باحتلال ميناء أكتيوم اليوناني وتحصينه، ونصب المدفعية العثمانية بكثافة فيه؛ إذ يقع هذا الميناء في موقع حيوي، ويفصله أحد الخلجان عن ميناء بريفيزا.
وفي 28 سبتمبر/أيلول 1538م، نشبت معركة بريفيزا الشهيرة بين الأسطول العثمانية وخصمه الأوروبي، خلال تلك المعركة تمكن سنان ريس من تدمير جزءٍ كبير من الأسطول الأوروبي، الأمر الذي دفع بأندريا دوريا إلى الانسحاب من المعركة وإعلان هزيمته.
شارك بعدها سنان ريس مع طورغود باشا في تحرير ليبيا من فرسان مالطا سنة 1551م، ولا تذكر المصادر التاريخية شيئاً عن بقية حياته سوى أنه عام 1555 لأسباب طبيعية.