ينجذب السياح الأوروبيون والعرب بشكل كبير إلى فتحية، التي تقع في ولاية موغلا التركية، لقضاء فترة الإجازة الصيفية، والتمتع بالسباحة على شواطئ بحر إيجة (فرع من البحر المتوسط)، وزيارة آثارها التاريخية التي يعود بعضها لآلاف السنين.
ويلاحظ الزائر أنها الوجهة المفضلة للسياح البريطانيين بالدرجة الأولى؛ حيث تزدحم المنطقة بهم، حتى إن بعض السياح والسكان المحليين يسمون فتحية منطقة الإنجليز.
هذه المنطقة من تركيا شهدت أحداثاً كثيرة عبر تاريخها الطويل، ابتداءً منذ قدوم أول إنسان استوطنها، وصولاً إلى إطلاق الاسم الحالي عليها "فتحية"، الذي يعتقد كثيرون أنه يعود لاسم سيدة، إلا أن هذا الاسم مرتبط بشخص عاش حياة مثيرة، وانتهت حياته بشكل مأساوي قرب بحيرة طبريا، فما قصة هذه المدينة الأثرية، ومن هو "فتحي بك" الذي سُميت المدينة تيمناً به؟
مدينة فتحية.. حضارة منذ آلاف السنين
تقع فتحية الحديثة على أنقاض مدينة تلميسوس التاريخية (أرض الأنوار)، التي كانت أهم مدينة لإقليم ليقيا القديم (ليقيا أو ليكيا اسم قديم لإقليم يقع جنوب غرب آسيا الصغرى، المنطقة البحرية القديمة في جنوب غرب الأناضول (تركيا الآن)، يحتل الساحل بين كاريا وبامفيليا، ويمتد داخل البلاد حتى حافة جبال طوروس".
تم وصف شعب ليقيا في السجلات المصرية والحثية والأوغاريتية للقرنين الـ 13 و14 قبل الميلاد، بأنهم شعوب تسكن بين الحثيين في الشمال والإغريق على الساحل، شاركوا في محاولة شعوب البحر لغزو مصر في أواخر القرن الـ13. لا شيء أكثر من ذلك معروف عن الليقيين حتى القرن الـ8 قبل الميلاد، حيث تم وصفهم كشعب ذي حضارة بحرية مزدهرة، لم يستطِع أحد احتلالهم لفترة طويلة من الزمن.
وقعت تلميسوس (فتحية حالياً) تحت حكم الفرس عام 545 قبل الميلاد، على يد الجنرال هارباغوس بعد مقاومة شديدة من أهاليها، ثم دخلت المدينة في القرن الـ 4 قبل الميلاد تحت حكم الإسكندر الأكبر ملك مقدونيا، وفقاً لموقع قائم مقام منطقة فتحية الرسمي.
وبحسب الموقع نفسه، وقعت تلميسوس تحت حكم الملك بطليموس لفترة من الوقت، وهو أحد أتباع إسكندر الذي حكم مصر، ولكن بعد ذلك تم غزوها من قبل الإمبراطورية الرومانية وكان اسم المدينة آنذاك "ماكري"، الذي يعني "الأرض البعيدة".
بعد تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين، بقيت فتحية (ماكري) داخل حدود الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وكانت من أهم المدن التجارية التي اشتهرت بصناعات عدة أبرزها العطور، وفي عام 1282، وقعت المدينة تحت حكم إمارة منتيش، وهم أمراء حكموا في الأناضول خلال الفترة الثانية وقد حكموا خلال القرن الثالث. وعرفت بين السكان المحليين حينئذ باسم "بيش كازا"، أي منطقة الخمس حوادث.
فتحية العثمانية.. احتلها الطليان
وفي عام 1424، ضم العثمانيون المدينة إلى حكمهم، وأولوها اهتماماً كبيراً، لما تحويه من معالم مهمة ومكانة جغرافية وبحرية مهمة، وكان أوج نموها وازدهارها في القرن الـ 19.
بعد أن دخلت الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1914، وهزمت بعد توقيعها اتفاقية هدنة "موندروس" في 30 أكتوبر/تشرين الأول عام 1918، التي تنص المادة "7" فيها على أن الدول المنتصرة لها صلاحية احتلال أي إقليم عثماني تريده في حال أحست بالخطر، سيطرت القوات الإيطالية المنتصرة على أنطاليا وبودروم وفتحية ومارماريس وكوساداسي، كما أرسلوا قواتهم إلى مدينتي قونية وإسكي شهير، لحوالي عام، إلى أن استطاع الأتراك تحرير هذه المناطق خلال حرب التحرير.
عقب خوض الأتراك معركة التحرير، وقعت كل من الجمهورية التركية واليونان اتفاقية التبادل السكاني بينهما في 30 يناير/كانون الثاني 1923، التي قضت بنقل المسلمين اليونانيين من اليونان إلى تركيا، وإعادة المسيحيين اليونان إلى اليونان، التي بموجبها، نُقل حوالي مليون ونصف يوناني من أراضي آسيا الصغرى، وتركيا إلى اليونان، ونُقل نصف مليون مسلم إلى تركيا.
وبموجب الاتفاقية الموقعة، جرى استثناء المسلمين الأتراك الذين يسكنون ما بين نهر مرج (إيفروس) الذي يفصل بين حدود البلدين، حتى مدينة "قوله" ونهر "قره صو" في اليونان من التبادل، ليكتسبوا صفة "أقلية" بموجب اتفاقية لوزان (1923).
تم إرسال يونانيي ماكري إلى اليونان حيث أسسوا بلدة نيا ماكري (ماكري الجديدة) في اليونان، أعيد توطين المدينة مع الأتراك القادمين من اليونان، في قرية كاياكوي، وقد احتفظت المدينة بآثارها الممتدة لسنوات طويلة حتى يومنا هذا، إلى أن تغير الاسم بعد هذا التبادل بـ 10 سنوات، إلى اسم فتحية، فما قصة الاسم؟
Şehrimize ismini veren Şehit Yüzbaşı Tayyareci Fethi Bey'in şahadetinin 108. yıl dönümünde anma töreni gerçekleştirildi. pic.twitter.com/i6yYC3Ic8s
— Fethiye Belediyesi (@fethiyebelediye) February 27, 2022
من هو فتحي بك؟
في عام 1934، وبعد تأسيس الجمهورية التركية، تم تغيير اسم المدينة الذي عُرف لسنوات طويلة باسم ماكري إلى "فتحية" fethiye" تكريماً للطيار فتحي بك أحد أوائل طياري القوات الجوية العثمانية، الذي قتل في إحدى المهام.
اختلفت المصادر في تحديد العام الذي وُلد فيه فتحي بك، حيث ذكر الفيلم الوثائقي التركي "رواد في الطيران التركي" أنه ولد عام 1891، فيما ذكرت مصادر أخرى أن ميلاده كان قبل ذلك بـ 4 أعوام سنة 1887، كما اختلفت المصادر أيضاً في تحديد يوم وفاته بين 27 فبراير/شباط 1914 أو 3 مارس/آذار من العام ذاته، رغم أنه كتب على شاهد قبره أنه توفي في 3 مارس.
وُلد فتحي بك في إسطنبول، في أواخر أعوام حكم السلطان عبد الحميد الثاني، حيث أكمل تعليمه الابتدائي ثم دخل الثانوية البحرية لمدرسة العمليات الميكانيكية عام 1901، وبعد تخرجه شغل الملازم أول فتحي مناصب مختلفة، منها ميكانيكي، ومهندس للمحركات، ثم عمل في تصنيع وصيانة الأسلحة في المصنع العسكري.
وفي أواخر شهر يوليو/تموز عام 1912، تم إرساله ضمن طاقم إلى مدرسة الطيران في بريطانيا ليدرس الطيران هناك ويصبح طياراً، إضافة لتلقي تدريبات حول إصلاح محركات الطائرات، وقد تفوق في كلا الأمرين بجدارة، وبوقت قصير.
بزوغ نجم فتحي بك
ومع اندلاع حرب البلقان الثانية عام 1913، اضطر فتحي بك ورفاقه في البعثة إلى العودة إلى إسطنبول بعد أن تم استدعاؤهم للمشاركة في الحرب، حيث برز اسمه كواحد من ألمع الطيارين فيها، وتم تعيينه ضابطاً جوياً للمراقبة في الجيش الغربي قرب سالونيك شمال اليونان، حيث تعرض الجيش العثماني هناك لمداهمة اليونانيين، فاتخذ الضابط فتحي بك قراره بالعودة لإسطنبول وحرق طائرتين عثمانيتين كي لا تقعا في يد اليونان.
كانت فكرة فتحي بك التي نقلها للقيادة أثناء أداء مهمته في المراقبة عن قرب، هي إسقاط القنابل على خطوط الطائرات اليونانية، ونتيجة لفكرته ونجاحاته في حرب البلقان، تم منحه ميدالية الجدارة الفضية، كما أنه فاز بلقب أول طيار تركي يطير ليلاً بعد خوض رحلته الليلية في فبراير/شباط 1913، كما كان أحد الطيارين الذين قاموا بأول رحلة لمسافات طويلة.
بعد انتهاء الحرب بأشهر قليلة، شارك فتحي بك مع مجموعة من الطيارين بتنظيم رحلات جوية لتوزيع كتيبات حملة التبرع التي نظمتها الجمعية البحرية إلى إسطنبول لشراء الطائرات، وقد شاركته بهذه الرحلة بلقيس شوكت هانم، أحد مؤيدي الحملة، والتي أصبحت هنا أول امرأة تركية تقوم برحلة جوية.
رحلة إسطنبول – القاهرة
بعد انتهاء حرب البلقان التي هزم فيها العثمانيون هزيمة كبرى، وما نتج عنها من خيبة أمل كبيرة وحالة من الإحباط الجماهيري العام، حاولت الحكومة العثمانية البحث عن حلول لرفع الروح المعنوية لشعبها، وتحسين صورتها أمام العالم.
لذلك قرر وزير الحربية العثمانية ورئيس الأركان الجديد تلك الفترة، أنور باشا، أن يحلق الطيارون الأتراك في رحلة من إسطنبول إلى القاهرة، بهدف استعراض تطور وقوة الدولة العثمانية في الطيران، وتحسين صورة الدولة المهزومة، وكان اختيار مصر يعود لأواصر المحبة بين القاهرة وإسطنبول وقتها، وفقاً للمصري عبد الرازق أحمد محمد أحمد في دراسته "رثاء الطيارين التركيين فتحي بك وصادق بك بين عبد الحق حامد وحافظ إبراهيم".
وعليه تم الإعلان عن الرحلة في شهر يناير/كانون الثاني 1914، التي جذبت اهتماماً كبيراً من الصحافة في تلك الفترة، وأُعلن أن النقيب الطيار فتحي بك سيستخدم طائرة من طراز بلايريو اسمها "معاونت إي ملليه"، ويرافقه النقيب طيار صادق مراقباً، وأن النقيب طيار نوري سيستخدم طائرة من طراز ديبردوسين اسمها "برنس جلال الدين" برفقة النقيب طيار إسماعيل مراقباً.
ووفقاً لما كان مقرراً، سيقطع الطيارون في هذه الرحلة مسافة تزيد على 2500 كيلومتر، ومن المتوقع أن تستغرق 25 ساعة. كان كل شيء يبدو على ما يرام، حيث تم تجهيز الخدمات الأرضية بشكل جيد جداً، من توفير وقود في مناطق الهبوط، وتجهيز قطع غيار ومستلزمات الصيانة، من إسطنبول مروراً ببيروت ودمشق وحلب وصولاً إلى بورسعيد والقاهرة.
نهاية فتحي بك ورفاقه المأساوية
في 8 فبراير/شباط عام 1914، أقلعت الطائرات من إسطنبول بعد احتفال رسمي حضره كبار رجال الدولة، إلا أن طائرة نوري اضطرت للهبوط القسري أكثر من مرة، إما بسبب الطقس أو الصيانة ونقص الوقود، إلا أن الطائرتين أكملتا الرحلة بشكل معقول، كما كان مخططاً، على الرغم من مواجهة بعض العقبات، في الأثناء التي كان يراسل فيها أنور باشا الحكومة في مصر من أجل التنسيق لحفل استقبال الطائرتين.
بعد مرور مدة من انطلاق الرحلة، واجه الطيارون أزمات تسببت في عدم وصولهما إلى مصر أبداً، فالطائرة الأولى التي كان يقودها فتحي بك اضطرت إلى أن تنزل في بيروت أثناء رحلته لدمشق في 19 فبراير/شباط، بسبب عطل في الطائرة، وفي يوم 27 فبراير أقلع فتحي بك من دمشق متوجهاً إلى القدس، إلا أن خللاً حدث في الطائرة أدى إلى سقوطها فوق منطقة صخرية جوار بحيرة طبريا، وبعد عملية البحث تم العثور على ركام الطائرة وجثتي الطيار فتحي بك ومساعده صادق، اللتين تم دفنهما بدمشق.
أما الطائرة الثانية التي يقودها نوري، فقد وصلت إلى دمشق قادمة من حلب، وشارك نوري ومرافقه بجنازة صديقيهما، ثم انطلقا حتى وصلا مدينة يافا في 11 مارس/آذار 1914 للذهاب إلى مصر عن طريق الساحل، لكن، وبسبب عطل بالطائرة فقد نوري السيطرة على القيادة فسقطت طائرته في البحر، ومات نوري إلا أن مرافقه إسماعيل نجا لحسن الحظ، وتم دفن نوري بجوار أصدقائه فتحي بك وصادق قرب قبر صلاح الدين الأيوبي في دمشق.
لسوء الحظ، لن تصل أي من الطائرتين إلى وجهتها، وقد سبب الحادث حزناً كبيراً في أرجاء الدولة العثمانية ومصر بعد استشهاد فتحي بك، أشهر طيار في تلك الفترة، وأصدقائه، ورثاه العديد من الشعراء الأتراك والمصريين، مثل حافظ إبراهيم وأحمد شوقي بقصائد حزينة.
وبعد عدة سنوات من وفاة النقيب طيار فتحي بك، تم إطلاق اسمه على مدينة ماكري وأصبح اسمها "فتحية" عام 1934، كما تم بناء نصب تذكاري في فتحية باسم فتحي بك افتتح في عام 2005.