مع تنامي موجة التحرر في خمسينيات القرن الماضي، وجدت فرنسا نفسها تواجه أكثر من ثورة بمستعمراتها في دول شمال إفريقيا، فقد تنامت مطالب الشعوب المغاربية بالحرية والاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، وبرزت شخصيات محلية وعالمية متعاطفة ومناصرة لمطالب هذه الشعوب.
حاولت فرنسا بكل ما أوتيت من قوة إخماد هذه الأصوات، وذلك عبر تأسيسها منظمة "اليد الحمراء" التي ارتبطت بالأجهزة الاستخباراتية الفرنسية، وكانت مهمتها تصفية نشطاء الاستقلال في كل من تونس والجزائر والمغرب، وقتل كل من يتضامن أو يناصر الثورة الجزائرية في أوروبا. فما هي قصة هذه المنظمة؟ وما هي أبرز عملياتها؟
ما هي منظمة اليد الحمراء؟
مع مطلع خمسينيات القرن الماضي، تصاعدت أنشطة الحركة الوطنية في الدول المغاربية الثلاث، تونس والمغرب والجزائر، وبدأت الحكومة الفرنسية في التوجُّس من أنشطة قادة وزعماء هذه الحركات؛ وقررت اللجوء إلى سياسة جديدة في التعامل مع هذا الوضع الجديد.
استعملت الحكومة الفرنسية، "اليد الحمراء" التي تأسست خصيصاً لتصفية المناضلين والمناهضين للاستعمار الفرنسي في دول المغرب العربي، وهي منظمة عسكرية فرنسية غامضة تعمل مباشرة تحت سلطات المخابرات الفرنسية، نفذت عدداً كبيراً من الهجمات في أوروبا ودول شمال إفريقيا في الخمسينيات من القرن الماضي.
كانت نواتها الأولى مكونة من الأقدام السوداء وضباط الاستخبارات الفرنسية، الذين كانوا مستعدين لعمل أي شيء من أجل القتل، وأطلقت عليها اسم "اليد الحمراء" لتغطية علاقتها بجهاز التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس، وبذلك تكون منظمة مستقلة عن المخابرات الفرنسية، لكن الأرشيف الذي أفرج عنه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند سنة 2013. كشف عن العلاقة بين هذه المنظمة وجهاز التوثيق ومكافحة التجسس الفرنسي.
ويعدّ الجنرال بيار بورسيكوت، قائد جهاز التوثيق ومكافحة التجسس في المخابرات الفرنسية، هو أوّل قائد للمنظمة التي بدأت عملها أولاً في تونس والمغرب، قبل أن تختم نشاطها بمطاردة وقتل الثوار الجزائريين في أوروبا.
في سنة 1957؛ وفي عهد الرئيس شارل ديغول، قام الجنرال بول غروسين، قائد جهاز التوثيق الخارجي والاستخبارات المضادة، بإعادة تفعيل المنظمة، وتوجيه عملها ضد الثوار الجزائريين.
وقد تم تعيين قسطنطين ملنيك على رأس الوحدة، وأصبحت أهدافها اغتيال رموز ومؤيدي جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وخاصة من عرفوا بأصحاب الحقائب وهم المثقفون الجزائريون بأوروبا.
منظمة اليد الحمراء بدأت عملها في تونس والمغرب
منذ تأسيسها سنة 1952، سعت منظمة اليد الحمراء الإرهابية، إلى استهداف رموز الحركة الوطني في دول شمال إفريقيا، فكان بداية نشاطها باغتيال الزعيم السياسي والنقابي التونسي الذي أسّس الاتحاد العام التونسي للشغل المناضل فرحات حشاد، الذي قتل في شوارع تونس برصاصة في الرأس في 5 من ديسمبر/كانون الأول 1952.
كما اغتالت اليد الحمراء القيادي البارز في الحزب الدستوري الجديد التونسي، الهادي شاكر، في 13 من سبتمبر/أيلول 1953، والقيادي في الحركة الوطنية التونسية عبد الرحمن مامي، الذي اغتالته المنظمة في 13 من يوليو/تموز 1954.
بحسب أنطوان ميليرو في مذكراته التي حملت عنوان " اليد الحمراء: الجيش السري للجمهورية"، وهو أحد عناصر منظمة اليد الحمراء، ارتكبت المنظمة الفرنسية السرية نحو 40 هجوماً في تونس وحدها، مستهدفةً أبرز نشطاء وقادة الحركة الوطنية التونسية.
وفي نفس الوقت، كانت اغتيالات منظمة اليد الحمراء مستمرة في المغرب، إذ استهدفت جاك ليمايي دوبريويل، وهو سياسي فرنسي مدافع عن استقلال المغرب، وذلك بتفجير سيارته، كما اغتالت المحامي ألفونس أوجست توفيني، الذي كان يدافع عن جبهة التحرير الجزائرية بالطريقة نفسها، كما حاولت المنظمة اغتيال زعيم الحركة الوطنية ورئيس حزب الاستقلال المغربي علال الفاسي.
منظمة اليد الحمراء تستبيح أوروبا لتصفية مناصري الثورة الجزائرية
مع اندلاع الثورة في الجزائر والصدى الذي وجدته في العالم، وجّهت اليد الحمراء وجهها تجاه النشطاء وداعمي الثورة الجزائرية في أوروبا.
أول عملية استهدفت فيها اليد الحمراء داعمي الثورة الجزائرية بأوروبا، كانت في مدينة هامبورغ الألمانية، يوم 28 سبتمبر/أيلول 1956، حينما تم استهداف مكاتب شركة أوتو شلوتر، مزود أسلحة لفائدة جبهة التحرير الوطنية الجزائرية بقنبلة، مما أدى إلى مقتل شريكه متأثراً بجراحه الخطيرة وإصابة والدته.
وفي 9 سبتمبر/أيلول 1957 أقدمت عناصر تابعة لمجموعة "اليد الحمراء" على اغتيال جورج جيتسر، في جنيف السويسرية، بسهم مسموم أطلق من بندقية، وكان جيتسر يدير مصنعاً لتصنيع القنابل اليدوية والألغام، ويزود بها جبهة التحرير الجزائرية.
وشهدت مدينة بون الألمانية عملية جديدة لمنظمة اليد الحمراء، حيث تم إطلاق الرصاص على مندوب جبهة التحرير الوطني في ألمانيا الغربية المحامي أمزيان آيت أحسن،بواسطة رشاش
كما استُهدف المحامي الجزائري أمقران ولد عودية بالرصاص أمام مكتبه في شارع سان مارك بباريس، ويعتبر ولد عودية أحد أبرز المحامين الذين يدافعون عن نشطاء جبهة التحرير الوطني خلال الحرب الجزائرية.
كما تعرض العديد من السياسيين والمحامين لتهديدات بالقتل أبرزهم المحامي الفرنسي جاك فيرجيس، كما قتلت كميل بلان رئيس بلدية ايفيان في مارس/آذار 1961 بسبب احتضان المدينة لمفاوضات بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير الجزائرية.
توقفت نشاطات المنظمة مع استقلال الجزائر سنة 1962، باعتبارها آخر الدول المغاربية التي تخرج منها فرنسا، إضافة إلى بنود اتفاقيات إيفيان التي وقعتها مع الجزائر في 19 مارس/آذار 1962، وبموجبها أنهت كل مظاهر العنف ضد الجزائريين.
لم تعترف لحد اللحظة الحكومة الفرنسية بمسؤوليتها عن عمليات المنظمة، رغم كشف الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند سنة 2013، وثائق من الأرشيف الفرنسي عن مسؤولية المخابرات الفرنسية عن مقتل المناضل التونسي فرحات حشاد.