قادة وثوار كثر، قتلوا قبل تحقيق حلمهم وأمنياتهم بالحرية والاستقلال، لكن القلة منهم من كانوا يتمنون الموت قبل أن تشرق على ثورتهم شمس الحرية، ومن هؤلاء القائد والمناضل الجزائري زيغود يوسف، الذي تنبأ بما ستكون عليه بلاده بعد نيل الاستقلال، من اقتتال وصراع على حكم، فتمنى الشهادة في الطريق.
ارتبط اسم زيغود يوسف بأكبر هجمات تشنها الثورة الجزائرية على القوات الفرنسية سنة 1955، هجومات كبدت فرنسا أكبر الخسائر في تاريخ صراعها مع جبهة التحرير، وكبدت الجزائريين أيضاً مجازر شنيعة ردت بها فرنسا على الثوار الجزائريين.
كما كان له دورٌ مهم وحاسم في مؤتمر الصومام الذي أعاد تنظيم الثورة الجزائرية وهيكلة جيشها.
توفي والده وهو جنين وانضم إلى الثورة وهو شاب
وُلد زيغود يوسف في 18 فبراير/شباط 1921 ببلدة كوندي التي أصبحت تحمل اسمه في ما بعد، أبوه كان اسمه السعيد بن أحمد وأمّه غرابي آمنة بنت محمد الطاهر، توفي والده وهو جنين في بطن أمه.
زاول الطفل يوسف تعليمه بالمدرسة الابتدائية الفرنسية التي نال منها شهادة التعليم الابتدائي، لكنّ حالة العوَز والفقر واليتم التي كانت ترافق ظروفه الاجتماعية، اضطرته إلى توقيف مساره التعليمي والولوج إلى الحياة المهنية لمساعدة أمه، فعمل زيغود يوسف صغيراً في حرفة النجارة والحدادة.
عرف الشاب يوسف النضال السياسي مبكراً، من خلال انخراطه بالكشافة الإسلامية الجزائرية، ثم انضمامه إلى حزب الشعب سنة 1943، كما شارك في مظاهرات 8 مايو/أيار 1945م، وهي المظاهرات التي تصدت لها القوات الفرنسية بوحشية بعد أن قتلت 45 ألف متظاهر في أسبوعين، وهو ما زاد من حقد زيغود يوسف وكل من شارك في تلك المظاهرات على فرنسا.
شارك زيغود يوسف في انتخابات المجالس البلدية والبرلمانية التي أجرتها فرنسا سنة 1947، وسمحت للجزائريين بالمشاركة فيها، ففاز بمقعد في بلديته بعد ترشحه في قائمة حركة انتصار الحريات الديمقراطية لزعيمها مصالي الحاج.
في نفس السنة، أسّس مصالي الحاج جناحاً عسكرياً لحزبه، سميّ بالمنظمة الخاصة، وضمت في صفوفها العديد من قادة الثورة التحريرية من بينهم زيغود يوسف.
في سنة 1950، اكتشفت السلطات الفرنسية أمر المنظمة الخاصة، وشرعت في حملة اعتقالاتٍ واسعةٍ لأعضائها، حتى وصلت إلى زيغود يوسف واعتقلته بتهمة الانتماء إلى المنظمة الخاصة.
استطاع زيغود يوسف الهروب من سجن عنابة الذي اعتقل فيه، مستغلاً حرفته السابقة في الحدادة، وذلك بعد أن استطاع صناعة مفاتيح لأبواب السجن، وبات منذ تلك اللحظة مطارداً من الاحتلال الفرنسي.
لم يمنعه العيش متخفياً بين أشجار غابات الأوراس، من المشاركة في التحضير لتفجير الثورة الجزائرية، فحضر زيغود يوسف اجتماع مجموعة 22 التي قررت تفجير الثورة في الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، وكان نائباً ومساعداً لقائد الولاية الثانية المناضل ديدوش مراد.
قاد أكبر هجوم للثورة الجزائرية ضد فرنسا
كان وقع دويّ الثورة كبيراً على السلطات الفرنسية التي تفاجأت بها، فبعد أقل من 100 يوم من اندلاع ثورة التحرير الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي في نوفمبر/تشرين الثاني 1954، اضطرت السلطات الفرنسية إلى تعيين حاكمٍ جديدٍ لها بالجزائر.
وقع اختيار الحكومة الفرنسية على الجنرال "جاك سوستال"، وأعطت الضوء الأخضر لحاكمها الجديد، لاستعمال كل شيء من أجل إخماد ثورة الجزائريين.
وبالفعل استخدم سوستال كل ما لديه للقضاء على ثورة الجزائريين، من خلال تطبيق فكرة الإدماج السياسي والإداري التي حملها مشروعه المسمى "مشروع جاك سوستيل"، و الذي هدف من خلاله إلى إلحاق الجزائر بفرنسا من خلال شعار "الجزائر فرنسية".
وحين واجهته صعوبات في تحقيق فكرته الإدماجية تلك، لجأ إلى تفعيل قانون الطوارئ، مستعيناً بضباط من ذوي الخبرة في حرب العصابات، من أمثال الجنرال "بارلنغ" والعقيدين "ديكورنو وبيجا".
كان الشرق الجزائري المستهدف الأكبر بمشاريع وخطط جاك سوستيل، كونه كان المعقل الرئيسي للثورة الجزائرية عند اندلاعها.
فأطبقت السلطات الفرنسية حصاراً خانقاً على منطقة الأوراس، وارتكبت مجازر عديدة في مناطق أخرى في الشرق.
كان جاك سوستيل يرى أن "الثورة الجزائرية هي الأوراس، وأن الأوراس هي الثورة"، وخنق منطقة الأوراس سيقضي على الثورة ويفشلها.
تمكنت فرنسا من استهداف قائد الولاية الثانية التاريخية الشهيد ديدوش مراد وقتله في 18 يناير/كانون الثاني 1955، فحلّ زيغود يوسف قائداً في مكانه، وأمام الحصار الخانق الذي تعرضت له الثورة ومنطقة الأوراس، حمل زيغود يوسف على عاتقه مهمة كسر الحصار، وذلك بشن هجوم واسع على السلطات الفرنسية في ولايته.
في منتصف نهار يوم 20 أغسطس/آب 1955، اندلعت سلسلة من الهجمات المتزامنة في كل من مدن سكيكدة ، قسنطينة الخروب، والحروش، استهدفوا من خلالها المراكز العسكرية، ونقاط تجمع الأقدام السوداء، وخلفت الهجمات مقتل 125 فرنسياً.
ردت السلطات الفرنسية بمجازر كبيرة استهدفت بها المدنيين الجزائريين، فكانت حصيلتها استشهاد 12 ألف جزائري.
وبعد تلك الهجمات اعترف الحاكم العام للجزائر حينها جاك سوستال بأن "هجمات 20 أغسطس/آب 1955 تمثل الانطلاقة الحقيقية لما يحدث في الجزائر من ثورة".
تنبأ بمصير الجزائر قبل استشهاده
فجرّت الحصيلة الدموية الثقيلة التي خلفتها هجمات الشمال القسنطيني، خلافات بين قادة الثورة الجزائرية، ما دفعهم للإسراع إلى تنظيم مؤتمر الصومام، لمراجعة وتقييم أداء الثورة، فبعد سنة من تلك الهجمات، اجتمع قادة الثورة في وادي الصومام، وهناك دافع زيغود يوسف بقوة عن الهجمات، معتبراً إياها خففت الحصار على الثورة، كما تمت ترقيته في المؤتمر إلى رتبة عقيد.
وبعد العودة من المؤتمر، وخلال إحدى جولاته لتنظيم الوحدات العسكرية بالولاية التاريخية الثانية، أغارت عليه القوات الفرنسية بعد كشفها لهويته، لتتمكن من قتله في 23 سبتمبر/أيلول 1956.
وقبل استشهاده، تنبأ العقيد زيغود يوسف بالمآل الذي ستؤول إليه الجزائر بعد الاستقلال، إذ قال في إحدى مقولاته: "الاستقلال قادم لا محالة لكنني أنا أتمنى الاستشهاد قبل تحقيقه"، وعند سؤاله عن السبب قال "الجماعة رايحين يرونوها – أي أنّ قادة الثورة سيتقاتلون فيما بينهم" فبعد استقلال الجزائر دبّ الاقتتال والتخوين بين رفقاء السلاح.