يتوجّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر، في زيارة رسمية تهدف إلى إعادة إحياء الشراكة بين البلدين والسعي إلى تبديد الخلافات والتوترات، وضمن أجندة هذه الزيارة، سيزور ماكرون ولاية وهران الجزائرية التي كان قد طالب الجزائر في السابق بالاعتراف بـ الحادثة الدموية" التي شهدتها المدينة في الخامس من يوليو/تموز 1962.
ويتهم ماكرون السلطات الجزائرية بقتل مئات الفرنسيين بالمدينة، قبل ساعات من رحيل قوات بلاده من الجزائر، معتبراً إياها "حادثة لا تُغتفر" بالنسبة للجمهورية الفرنسية.
وهران معقل "الأقدام السوداء" التي حوّلتها فرنسا إلى مدينة أوروبية
في يناير/كانون الثاني 1831م، سقطت مدينة وهران في يد الاحتلال الفرنسي، ومنذ ذلك الحين سعت فرنسا إلى تفريغ المدينة من الجزائريين، وتحويلها إلى مدينة أوروبية. وتذكر مصادر تاريخية أنّ المدينة أُفرغت من سكانها بعد احتلالها فلم يتبقَّ منها سوى 250 جزائرياً بعد أن كان بها زهاء 10 آلاف. وسرعان ما تحولت وهران تدريجياً إلى مدينة أوروبية بامتياز، غالبية سكانها من "الأقدام السوداء".
والأقدام السوداء هو مصطلحٌ يشير إلى المستوطنين الفرنسيين والأوروبيين المولودين في الجزائر، أو الذين عاشوا فيها خلال فترة الاستعمار.
وحسب إحصائيات فرنسية، بلغ عدد الأقدام السوداء بمدينة وهران وحدها سنة 1962، أزيد من 200 ألف نسمة، غالبيتهم من الأصول الإسبانية.
وللأهمية التي تشكلها المدينة للسلطات الفرنسية، تمسكت باريس كثيراً بمدينة وهران، وبالرغم من تسليمها الحكم إلى الحكومة الجزائرية، بناء على "اتفاقيات إيفيان" الموقعة بين الحكومتين في 19 مارس/آذار 1962، بقي الجيش الفرنسي محتفظاً بمرسى الكبير بوهران تحت سيطرته حتى 31 يناير/كانون الثاني 1968، تاريخ خروج آخر جندي فرنسي من الميناء.
منظمة الجيش السري الفرنسية تنشر الرعب في وهران
بعد اتفاق الحكومة الجزائرية المؤقتة مع نظيرتها الفرنسية على وقف إطلاق النار، والجنوح إلى استفتاء لتقرير مصير الجزائر. كانت الأقدام السوداء، أكثر الأصوات المتطرفة والرافضة لمنح الجزائريين حقهم في تقرير مصيرهم.
ولأجل منع حصول ذلك، شكلت الأقدام السوداء ما يعرف بـ "منظمة الجيش السري"، وهي منظمة إرهابية سعت من خلالها الأقدام السوداء إلى منع حصول الجزائر على استقلالها، وذلك بارتكاب جرائم إرهابية في حق الجزائريين والفرنسيين على حد سواء؛ بهدف إشاعة الفوضى والعنف.
تضاعف عمل هذه المنظمة بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار بين جيش التحرير الوطني والحكومة الفرنسية في 19 من مارس/آذار 1962، وارتكز بالأساس في المدن التي بها عدد كبير من المستوطنين الأوروبيين.
وكانت وهران إحدى المدن التي ارتكبت فيها منظمة الجيش السري جرائم مروّعة، كمجزرة "الطحاحنة" في فبراير 1962، والتي ذهب ضحيتها عشرات الجزائريين بعد استهداف منظمة الجيش السري الفرنسية لسوق شعبي.
وحسب دراسة قام بها المؤرخ الجزائري صادق بن قادة، الباحث بمركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية الجزائري "الكراسك" سنة 2012، قُتل أكثر من ألف جزائري على يد منظمة الجيش السري بمدينة وهران فقط، وذلك في الفترة ما بين 1961 و1962. وقبيل الاستقلال، انقسمت مدينة وهران إلى قسمين؛ الجزائريون يناصرون جبهة التحرير الوطني، والأوربيون (الأقدام السوداء) يناصرون منظمة الجيش السري.
حادثة 5 يوليو 1962.. حين انتقم الجزائريون من العملاء والمستوطنين
في صباح يوم 5 يوليو/تموز 1962، وبينما كان الجزائريون والأوروبيون بوهران يستمتعون بعرضٍ عسكريّ احتفالي لجبهة التحرير على مرأى من الشرطة الفرنسية التي كانت حاضرة لتأمين الاحتفال، شهدت المدينة حادثة قتل جماعي راح ضحيتها المئات من الأقدام السوداء الذين تركتهم فرنسا بالمدينة.
فبعد أن انطلق العرض العسكري، بدأ إطلاق النار من وسط الحشود التي تجمعت لمشاهدة هذا العرض، ثم ما لبث أن تطور المشهد ليتحول إلى قتل جماعي للمستوطنين الأوروبيين.
حدث ذلك أمام مرأى من قوات الشرطة الفرنسية من جهة وقوات جيش التحرير الوطني من جهة أخرى الذين بقوا مشاهدين للحادثة دون أي تدخل وذلك بسبب بنود وقف إطلاق النار التي تمنع الطرفين.
وإلى حد اللحظة، يتواصل الجدل حول عدد الضحايا، فبينما قدَّرت السلطات الجزائرية عدد القتلى في تلك الحادثة بـ 95 ضحية ما بين الجزائريين والأوروبيين، تقول الحكومة الفرنسية إن عددهم تجاوز 700 ضحية، بينما يقدرها الأقدام السوداء بنحو ألفي قتيل.
وكما اختُلف في عدد الضحايا، تختلف الروايات حول المسؤول عن هذه الحادثة، فبينما تتهم فرنسا جيش التحرير الوطني بارتكابها، توجه الحكومة الجزائرية أصابع الاتهام إلى منظمة الجيش السري الإرهابية، التي شكلتها الأقدام السوداء.
وتطالب الحكومة الفرنسية نظيرتها الجزائرية بالاعتراف بالحادثة، آخر تلك المطالبات كانت من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؛ إذ جدد في يناير/كانون الثاني 2022 مطالبه للحكومة الجزائرية بضرورة الاعتراف بالحادثة التي اعتبرها "حادثة لا تُغتفر" بالنسبة للجمهورية الفرنسية.