في العام 1812 تمكن يوهان لودفيغ بركهارت -وهو مؤرخ ورحالة سويسري- من الكشف عن تاريخ مدينة البتراء في جنوب الأردن، وعلاقتها بحضارة الأنباط، الذين قدّموا نموذجاً مميزاً في فنون التنظيم والبناء والنحت.
وقد شكلت حضارة الأنباط في سيناء، والأردن، وأجزاء من شمال شبه الجزيرة العربية، الحلقة الأولى في تكوين معالم المجتمع العربي القديم ما بين العام 169 ق.م و106. من دون أن ننسى أنه في العام 1985 أُدرجت البتراء على لائحة التراث العالمي التابعة لليونسكو، كما تم اختيارها لتكون واحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة في 2007.
تُعتبر الأنباط من الدول المهمة في بلاد العرب الشمالية، وكانت تمثّل نقطة التقاء حضارات عالمية مختلفة، ومنطقة تمازج فكري واقتصادي وديني لبلدان الشرق الأدنى القديم.
فقد كانت محاطة بالحضارة الفرعونية غرباً، وحضارة تدمر شمالاً، وحضارة بلاد الرافدين شرقاً؛ وقد امتدت حدود مملكتهم بأقصى اتساعها في عهد ملكها الحارث الثالث، لتشمل البلاد الواقعة بين دمشق ومدائن صالح شمال الحجاز، بما فيها شرق الأردن، وسواحل البحر الأحمر، ومنطقة شبه جزيرة سيناء، وصحراء النقب، وحوران.
والأنباط هم قبائل عربية ظهرت للمرة الأولى في القرن السادس قبل الميلاد في الصحراء الواقعة شرقي الأردن. قدمت تلك القبائل من جنوب شرقي الجزيرة العربية، ونزلت أولاً فيما يعرف الآن باسم مدينة البتراء، جنوبي الأردن.
ما يُثير الانتباه أن العالم لم يكن يعرف شيئاً عن أصل الأنباط وحضارتهم العريقة قبل اكتشاف بركهارت لمدينة البتراء، عاصمة مملكتهم الجميلة، والتي من خلالها بدأت رحلة استكشاف مملكة الأنباط الذين قدّموا نموذجاً حضارياً مميزاً على كل الأصعدة.
عروبة الأنباط
يؤكدّ الكثير من الباحثين والمؤرخين على عروبة الأنباط، وذلك رداً على الشكوك الدائرة حول حضارتهم، والتي يعتبرها البعض مزيجاً من ثقافاتٍ مختلفة لإمبراطوريات عدة. فقد كانت مملكتهم مركز التقاء حضارة اليونان والرومان بحكم السياسة، وملتقى الديانات اليهودية والمسيحية والوثنية، إضافة إلى كونها مركزاً للهند والصين وحوض البحر المتوسط وباقي بلاد العرب من حيث الاقتصاد.
وقد أوهمت هذه المؤثرات الحضارية العديد من المؤرخين للتشكيك في عروبتهم، إلا أن الأنباط في الحقيقة كانوا منفتحين للغاية، واستسقوا كلّ ما من شأنه أن يمهد لتطوّرهم الحضاري، مع الحفاظ على هويتهم العربية.
تشير النصوص والكتابات الأثرية المُكتشفة إلى عروبتهم بصورةٍ واضحة، لا سيما أنه يُلاحَظ ذكر أسماء عربية مثل علي، وحبيب، وسعيد، إلى جانب كلمات عربية أخرى مثل قبر وغيرها.
وفي كتابات أثرية عدة يكاد النص كلّه أن يكون عربياً، كما أن الكثير من المؤرخين اليونان أشاروا إليهم في كتاباتهم بـ"العرب"، ولا يخفى عن المطلع أسماء ملوكهم وملكاتهم أنّها كانت عربية خالصة. فقد تولّى حكم مملكتهم ملوك كثيرون دُعي معظمهم باسم الحارث، هذا عدا عن أسماء بعض آلهتهم العربية، مثل ذو الشرى، واللات، والعزى، ومناة.
كانت لغتهم المحكية لهجة عربية شمالية، وكتابتهم بالحروف الآرامية. وقد أصبح للكتابة النبطية صفتها المميزة حوالي منتصف القرن الأول قبل الميلاد، ويُستدلّ من دراسة الكتابات الأثرية العربية القديمة على أنّ الأبجدية العربية انحدرت مباشرة من الحروف النبطية.
إنجازات تُرفع لها القبعة
أعطى المؤرخون للشعب النبطي صورة عامةً تجلّت في كونهم شعباً متفهماً، محبّاً للكسب، منهمكاً في التجارة والزراعة والصناعة، ومزدهر الاقتصاد؛ وغالباً ما يُشار إلى أن مجتمعاتهم كادت تخلو من الفقراء المُعدمين، وقد امتاز المجتمع النبطي بكونه منظماً ديمقراطي النهج، يقوم على النظام الملكي الوراثي، ويستعين الملك فيها بمجلسٍ استشاري للمشاركة في سياسة المملكة وإدارتها وتصريف شؤونها.
وسّع الأنباط سلطتهم، وبرعوا في مجال التجارة حتى أصبحت لهم قوةً تُهاب. فقد كان نشاطهم التجاري واسعاً جداً، لدرجة أن أي تجارة، بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، لم تكن لتمرّ إلا من خلالهم ومروراً بمملكتهم.
فرضوا الضرائب والرسوم على التجارة، وتاجروا بمختلف السلع: من العطور، والطيب والتوابل، مروراً بالبخور من اليمن، ووصولاً إلى الحرير والمنسوجات بأنواعها من الصين ودمشق. وكانت لهم عملة خاصة تمّ سكّها في عهد ملكهم الحارث الثالث.
في مجال الزراعة حفروا الآبار وجمّعوا مياه الأودية والسيول بصهاريج، ووصلوها معاً عن طريق قنوات حُفرت في الصخر لتصل فيها المياه للشرب داخل المدينة وفي الحقول الزراعة، وتُعدّ هذه الصهاريج من المعالم الأثرية المهمة في مدينة البتراء؛ حيث كانت لها فتحات ضيقة من الأعلى برع الأنباط في إخفائها عن الأنظار وتمييزها عن طريق علامات لا يعرفها سواهم، ويستحيل على الأعداء -إن هاجموهم- تمييزها، فيموتون عطشاً في هذه المنطقة الجافة البعيدة عن مصادر المياه الطبيعية.
في الصناعة كان اهتمام الأنباط مُنصبّاً على صنع الأواني الخزفية والفخارية، وقد وصلنا منهم العديد من القطع التي تُعتبر من أجود أنواع الخزف والفخار التي أنتجتها منطقة الشرق الأدنى.
وفي رأي العلماء وخبراء الفن، فإنّ الأنباط كانوا من أصحاب المواهب العالية ومن أكثر الشعوب براعة في الفن والبناء والهندسة؛ إذْ كانوا في نحتهم للجبال والصخور يبدأون من الأعلى إلى الأسفل ومن ثمّ ينتقلون للأماكن الداخلية.
وقد نحتوا الكثير من التماثيل البشرية والحيوانية، وتركوا العديد من الجداريات بالزخرفة والألوان الزاهية. وعلى صعيد آخر، فقد اهتموا ببناء السفن والموانئ، ومنها ميناء أيلة، في مدينة "العقبة" حالياً جنوبي الأردن.
حضور نسائي واضح لدى الأنباط
بالاستناد إلى بعض الدراسات فقد كان للمرأة حضور بارز في الحياة السياسية لدى الأنباط، إذ ورد مصطلح "ملكة" في الكثير من نقوشهم، كما ظهرت صورة بعض ملكاتهم على عملتهم المحلية بثلاثة أنماط؛ صورة نصفية للملكة، جنباً إلى جنب مع الملك، وصورة نصفية للملكة على أحد أوجه العملة، وصورة للملكة وهي واقفة على أحد أوجه العملة، وهذا يدلّ على مكانتها ونفوذها السياسي في الدولة.
تشير الآثار المكتشفة أيضاً إلى مشاركة المرأة في الطقوس الدينية وزيارتها للمعابد، ومنها أحد التماثيل الطينية المصنوع على هيئة ثلاثة مغنين؛ امرأتان ورجل، وقد كانتا تعزفان على آلات موسيقية وترية مختلفة، وقد يشير هذا إلى أنّ المرأة النبطية عملت في المعابد.
وبشكل عام فقد احتلت الألوهية الأنثوية دوراً مركزياً في عالم الآلهة النبطية، كما يبدو أنّ النساء اكتسبن مكانة جيدة في الحياة الاجتماعية أيضاً، إذْ تعرض المنحوتات أزياء نسائية تقليدية ومجوهرات تعكس مكانة المرأة المرموقة.
وتزودنا النقوش النبطية، خاصةً النقوش الجنائزية، بقدرٍ كبير من المعلومات المتعلقة بحقوق الحيازة للمرأة، وحقوقها القانونية والتجارية.
البتراء عاصمة الأنباط وأعجوبة فريدة
تُعتبر مدينة البتراء، في محافظة معان- جنوبي الأردن، من أشهر المواقع الأثرية في العالم وأهم مواقع الجذب السياحي في الأردن، حيث تزورها أفواج السياح من كل بقاع الأرض. وما يميز هذه المدينة طبيعة معمارها، المنحوت في الصخر الوردي، الذي يحتوي على مزيج من الفنون المعمارية القديمة. ولذلك اشتهرت باسم "المدينة الوردية"، كما قد أطلق عليها البعض اسم "المدينة الضائعة" لتأخر اكتشافها.
والجدير ذكره أنّه، وفي العام 1985، تمّ إدراج البتراء على لائحة التراث العالمي التابعة لليونسكو، وقد اختيرت كإحدى عجائب الدنيا السبع الجديدة عام 2007.
يجد الزائر لمدينة البتراء نفسه بدايةً في السيق، وهو شقّ صخري هائل يصل ارتفاع جانبيه في بعض المواقع إلى ثمانين متراً من الصخور الملونة متنوعة الأشكال، ويمتدّ نحو كيلومتر يقطعها السائح مشياً على الأقدام.
وفي نهايته تنكشف أمام الناظر الخزنة المشهورة، التي يبلغ ارتفاعها 43 متراً و30م عرضاً منحوتة في الصخر، والتي حين تشرق عليها الشمس تعكس ألواناً ساحرة تشدّ الناظر إليها بعبق سحرها.
وفي هذا الإطار، من المهم الذكر أن الخزنة نُحتت بالأصل تخليداً لواحد من أهم ملوك الأنباط، الملك الحارث الرابع، وعلى الأغلب فهي تشكّل قبراً تذكارياً له، وفقاً لموسوعة وكيبيديا.