يروي معظم المؤرخين الصينيين القدامى عن تشين شي هوانغ أنّه كان حاكماً جباراً، ظالماً، عنيفاً وقاتلاً؛ فيما اعتبره كُتاب العصور الوسطى والعصر الحديث رائداً للحضارة الصينية، وأحد أبرز الشخصيات العالمية التي أثرت في تاريخ البشرية.
كان ملكاً لولاية تشين بين عامَي 246 ق.م و221 ق.م، ثم إمبراطوراً لأسرة تشين من 221 ق.م إلى 210 ق.م. وقد وَحّدَ الولايات الصينية الست الكبرى المتصارعة، عبر حروب تشين للتوحيد.
أدخل إصلاحات هائلة لوقف الفساد والتفكّك، اللذين داما لأكثر من 500 عام، بعد سقوط سلالة "زو" الحاكمة. وكانت هذه الإصلاحات من الأسس التي أبقت على الصين، وعلى تراثها الحضاري، ووحدتها الجغرافية حتى اليوم.
وُلد في دولة عدوّة وعاش فيها 6 سنوات
وُلد تشين شي هوانغ نحو سنة 259 قبل الميلاد، وهو ابن "زي شو"؛ أمير، ثم ملك دولة "تشين" (أي الصين) في شمال غربي الصين، والذي كان محتجزاً -رفقة عائلته الصغيرة- في دولة "زاهو".
بعض المؤرخين القدامى يعتقدون أن تشين شي هوان في الحقيقة ابنُ تاجرٍ غني، يُدعى "لو بووي"، كانت تربطه في السابق علاقة حُب بوالدة الإمبراطور المستقبلي للصين.
بالنسبة لموسوعة Britannica، فإن هذه الرواية مجرّد "ادعاء مشين"؛ لكنها أوضحت بالمقابل أن التاجر لو بووي، الذي كان يملك نفوذاً مالياً كبيراً، قد لعب دوراً رئيسياً في صعود والد تشين شي هوانغ إلى عرش دولة "تشين".
كان لو بووي يعيش في دولة "زاهو"، التي زارها في أحد الأيام الأمير زوان تشيانغ وأصبح بعدها صديقاً للتاجر الغني، وأعجب بحبيبته "تاشو جي"؛ فقرّر "لو بووي" أن "يمنحها" إياه، وعاش معها مؤقتاً في مدينة هاندان، عاصمة دولة زاهو.
وإثر هذه العلاقة، وُلد تشين شي هوانغ في مسقط رأس والدته، تحت اسم "زهاو زينغ"؛ وذلك في العام الذي تلا معركة "تشانبينغ"، التي شهدت دحر دولة تشين لغريمتها زاهو.
عاش الطفل تشين شي مع والديه في ظروفٍ قاسية، بعدما فرضت قوات دولة تشين حصاراً شديداً على مدينة هاندان، ومنعت عائلة زوان تشيانغ من مغادرة مقرّ سكنها.. فصرف التاجر لو بووي كثيراً من المال من أجل السماح لصديقه -أمير "تشين"- بمغادرة إقامته الجبرية والالتحاق بقوات دولة جدّه، تاركاً وراءه زوجته وطفله الصغير (تشي شي هوانغ).
لكن وبسبب أصول الوالدة، وحماية التاجر لو بووي، لم يتعرّض تشين شي هوانغ لأي أذى خلال الأعوام الستة الأولى من عمره التي قضاها في دولة زاهو.
وفي سنة 251 قبل الميلاد، توفي ملك دولة "تشين"، زهاو تشيانغ دي تشين، فخلفه ابنه الأمير أنيغيو لفترةٍ قصيرة، قبل أن يختفي في ظروفٍ غامضةٍ. فأصبح زوان تشيانغ، والد تشي شي هوانغ، الملك الجديد.
وفي ظلّ هذا التغيير في سُدّة حكم دولة "تشين"، وبحُكم المصاهرة التي باتت واضحة بين الدولتين، وافق حكام "زاهو" على إطلاق سراح المحتجزين لديها. وكان من بينهم تشين شي هوانغ ووالدته، فأصبح الطفل أميراً ولياً للعهد، وأصبحت والدته "تشاو جي" ملكةً لدولة "تشين". أما التاجر لي بووي، فتم تعيينه مستشاراً للملك.
تشين شي هوانغ.. انتظر 8 سنوات ليحكم فعلياً
توفي الملك زوان تشيانغ بعد ثلاث سنوات فقط من الحكم، فصعد الصبي تشي شي هوانغ إلى العرش وهو في الـ13 عاماً فقط. لكن الحُكم الفعلي كان بالوصاية وبتسييرٍ من والدته ومن المستشار لي بووي، أي إنه لم يتولَّ الحكم فعلياً سوى في العام 238 ق.م، حين صار في الـ21 من عمره.
ولما تولى الحكم رسمياً، كانت دولة تشي شي هوانغ الأقوى من بين الدول الصينية الأخرى، وكانت تلك الواقعة في وسط الصين تنظر اليها كأنها بلد متوحش لا يَمُتُّ بأي صلةٍ إلى الحضارة.
وفي الواقع، كانت "تشين" في ذلك الوقت قد نجحت في تكوين حكومةٍ ذات إدارةٍ قوية وتنظيمٍ عسكري، كأساس لفلسفة الدولة الشمولية، المعروفة في ذلك الوقت بـ"القانونية".
أعدم عشيق والدته، ونفاها مع كبير مستشاريها
في العام 138 ق.م، لما أصبح تشين شي هوانغ بالغاً ومؤهلاً للحكم، سارع إلى إعدام عشيق والدته الذي كان يخطط -رفقة مسؤولين آخرين- لإحداث انقلابٍ عليه، كما نفى والدته والمستشار لي بووي بعدما عَلِمَ أنهما كانا يخططان للانقلاب عليه.
وأصدر هوانغ أيضاً مرسوماً تنفيذياً بطرد كل الأجانب من دولته؛ وهو المرسوم الذي ألغاه فيما بعد، بطلبٍ من كبير مستشاريه "لي سي"، الذي أقنعه بأن رحيل الأجانب سيحرمه من مستشارين ذوي كفاءةٍ كبيرة.
ولم يكتفِ بفرض هيبته على دولته فقط، بل وسّع هوانغ طموحه وبسط نفوذه أيضاً على كل أرجاء الصين. فنجح خلال 15 سنة في الإطاحة بالولايات الصينية الست الكبرى، التي كانت في صراع مع "تشين"، من خلال اللجوء إلى وسائل شرعية وغير شرعية.
فإضافةً إلى قوة جيشه ودهاء قادته العسكريين، فقد لجأ أيضاً إلى الجاسوسية وإلى استعمال الرشوة مع مقرّبين من ملوك الدول الأخرى. فقضى على تلك الدول، الواحدة تلو الأخرى، وألحقها بمملكته؛ حتى ضمّ آخر دولة متبقية -"كي"- في العام 221 ق.م، وهو تاريخ توحيد الصين للمرة الأولى في التاريخ تحت سيادة "تشين".
تشين شي هوانغ يُعلن أن أسرته باقية لـ10 آلاف جيل
وتشين شي هوانغ، هو اللقب الذي أطلقه الملك الجديد على نفسه عندما تربّع على العرش، والذي يعني باللغة الصينية "أول إمبراطور ذي سيادة"، كما أعلن أن العائلة المالكة ستستمرّ لـ10 آلاف جيل.
وقصد تجسيد ذلك الإعلان على أرض الواقع، عندما أطلق -بعدما صار إمبراطوراً- سلسلةً من الإصلاحات تهدف إلى إنشاء إدارةٍ مركزية بشكلٍ كاملٍ، ليتفادى محاولات استقلال الدول الخاضعة له.
كما ألغى السلطة الإقطاعية الإقليمية، وأجبر العائلات الأرستقراطية الثرية على العيش في العاصمة شيانيانغ، مقسّماً البلاد إلى 36 منطقة عسكرية، لكلّ منها قوتها الخاصة ويحكمها رجل مدني.
وقام تشين شي هوانغ أيضاً بتوحيد الكتابة واللغة والعملة والأوزان والمقاييس، والأهم أنه يُعتبر صاحب مشروع سور الصين العظيم وقد أنجز الشطر الأكبر منه.
مشروع سور الصين العظيم
سور الصين العظيم هو حصن عسكري حقيقي، بُني لحماية الحدود الشمالية للصين، وهو مُدرَجٌ ضمن التراث العالمي من "اليونيسكو" باعتباره قيمة عالمية فريدة من نوعها.
يبلغ طول السور العظيم أكثر من 21 ألف كم، وبالضبط 21.169.18 كم، بحسب آخر تحيين قامت به الإدارة الحكومية الصينية للثقافة والتراث في سنة 2012.
يمتد السور بين مدينتي شانهاغوان في الشرق وجيايوغوان في الغرب، ويتكون من حدود طبيعية كالجبال والأنهار، إضافةً إلى خنادق وبناءات حجرية وتحصينات، تتخلّلها أبراج للمراقبة وملاجئ للحماية، ويتراوح ارتفاعه في الأجزاء الظاهرة منه ما بين 6 و7 أمتار، وعرضه بين 4 و5 أمتار.
باشر الإمبراطور تشين شي هوانغ بناء سور الصين العظيم في العام 220 ق.م، وفقاً لموقع Futura Sciences الفرنسي، وبنى الجزء الأكبر منه. ثم تواصل بناؤه في عهد العائلات الحاكمة التي تلت سقوط إمبراطورتيه، وهي "هان" و"يوان" و"مينغ" و"كينغ"، لينتهي بناؤه في القرن السابع عشر بعد الميلاد.
تعرّض هذا الإنجاز الضخم في كثيرٍ من المرات لانهياراتٍ جزئية، ثم أعيد بناؤه، ولا يزال يخضع -حتى اليوم- لعمليات ترميمٍ بشكلٍ دوري ومنتظم قصد المحافظة عليه كمَعلَمٍ سياحي عظيم.
قبل قيام إمبراطورية تشين، كانت الدول والممالك الصينية المتحاربة فيما بينها تقوم ببناء أسوار حول مدنها لتحصينها من غزو جيرانها. ولما وحّدها تشين شي هوانغ، قرّر إنشاء سورٍ ضخم يحمي كل إمبراطوريته، وقد تم إنجاز 5760 كم من المشروع في عهده.
وتحتفظ الذاكرة الجماعية الصينية بأن الشطر الكبير الذي أنجزه الإمبراطور تشين شي هوانغ قد تمّ بفضل سواعد ودماء الآلاف من الجنود والعمال والفلاحين والسجناء المحكوم عليهم بالأعمال الشاقة، والذين توفي عدد كبير منهم من شدة التعب والإجهاد.
مات بعد 11 سنة من البحث عن "إكسير الخلود"
بعد توحيد الدول الصينية ضمن إمبراطورية تشين، استمرّ تشين شي هوانغ في الحكم 11 سنة أخرى؛ قام خلالها بسلسلة من الجولات التفتيشية بمختلف أقاليم بلاده، كان يتوقف خلالها أمام المعابد ليقدّم القرابين ويترك منقوشات حجرية تمجّد إنجازاته بتوحيد الصين.
وقام أيضاً بعدة رحلات للبحث عن أساتذة السحر والكيمياء الذين يمكنهم منحه ما يُعرف بـ"إكسير الخلود"، وذلك على الرغم من نصائح علماء بلاده الذين أكدوا له أن هذا الأمر عبارة عن شعوذة.
توفي تشين شي هوانغ في سنة 210 ق.م، خلال إحدى رحلاته الاستكشافية، ويُقال إنه قد فارق الحياة متسمّماً، بعد تناوله لإكسير الخلود المزعوم. لكن الروايات غير مؤكدة في هذا الإطار.
ورغم أن هوانغ كان يؤكد أن سلالة تشين ستحكم إمبراطورية الصين لـ10 آلاف جيل، فإنها سقطت بعد 4 سنوات فقط من وفاته، نتيجة اندلاع حروبٍ بين الأقاليم. فنشأت إمبراطوريات أخرى تحت اسم عائلات حاكمة جديدة، واستمرت في العرش على فترات متفاوتة، كما ساهمت هي الأخرى في مواصلة بناء السور العظيم، مخلّدةً بذلك اسمها في تاريخ البشرية والحضارة العالمية.
دُفن مع جيشٍ من 7 آلاف جندي
قبل وفاته، أمرَ تشين شي هوانغ بأن يُدفن مع جيشٍ كبير من الجنود، ولكن من طين، تم العثور عليهم بعد أكثر من ألفي سنة، في العام 1974، بحسب مجلة DISCOVER الأمريكية.
دُفن تشين شي هوانغ في ضريحٍ قُربَ جبلٍ مقدّس شمال شرقي الصين، وقد اكتشف مزارعون -كانوا يحفرون في حقل قريب منه بالعام 1974- تماثيل طينية وأبلغوا السلطات التي بدأت استخراجها وترميمها.
فكانت المفاجأة أن عدد تماثيل الجنود يفوق الـ7 آلاف، وقد وُجدت في صفوفٍ منظَّمةٍ بدقةٍ عسكريةٍ متناهية، كأنها تقوم بحراسة الإمبراطور الأسطوري. فقد جُهِّز الجيش، بأسلحةٍ حقيقية مصنوعة من البرونز، إضافةً إلى عربات ومئات الخيول المصنوعة من الطين المحروق (تيراكوتا).
كما استُخرِج من القبر نحو 40 ألف رأس سهم، إضافةً إلى سيوفٍ برونزية ورماحٍ وفؤوس قتال وأقواس ونِشاب ودروع وغيرها.
وقد أُطلق فيما بعد، على هذه التماثيل الجنود، اسم "جيش تيراكوتا" بسبب مزيج الطين الحراري المصنوع منه كل تمثال.