ليست التسويات السياسية حديثة العهد، بل هي موجودة منذ القدم، وغالباً ما تأتي على شكل مؤتمرات أو معاهدات أو اتفاقيات. المفارقة في هذه التسويات أن مجموعةً قليلة من الرجال يقرّرون مصير عالمٍ بأكمله، لنصبح أمام معاهدات غيرت التاريخ.
هي حلّ دبلوماسي جيّد، وأحياناً مثالي، للنزاعات والحروب بين دول العالم؛ ولعلّ أقدم تسوية سياسية يسجّلها التاريخ تعود إلى القرن الخامس عشر، وهي معاهدة تورديسيلاس، التي وُقّعت عام 1494 بين إسبانيا والبرتغال.
كان الهدف من المعاهدة حلّ الخلاف الذي نشأ بعد عودة كريستوفر كولومبوس وطاقمه من رحلتهم إلى إسبانيا، حين توقف في لشبونة وطلب لقاء الملك البرتغالي ليؤكد له وجود مزيدٍ من الجزر جنوب جزر الكناري.
لم يُعجَب الملك البرتغالي جواو الثاني بهذا الترتيب، وشعر بأنه لم يحصل إلا على القليل بعدما مُنع من الحصول على أي ممتلكات في الهند، وهو الهدف الذي يتمنى تحقيقه. ولأنه لم يكن مستعداً لخوض حرب مع إسبانيا حول الجزر التي اكتشفها كولومبوس، قرر الملك البرتغالي إبرام مفاوضات مباشرة مع الملكين الكاثوليكيين لإسبانيا (تاج قشتالة) وإزاحة الخط نحو الغرب، والسماح له بالحصول على الأراضي المكتشفة حديثاً شرق الخط.
في هذا التقرير، سنُلقي الضوء على معاهدات سياسية غيّرت التاريخ فعلياً، أو لنقل إنها رسمت العالم كما هو اليوم. هذه 5 مناسبات جلس فيها بعض الرجال بعضهم مع بعض، وقرّروا مصير العالم، لنصبح أمام معاهدات غيرت العالم:
معاهدات غيرت التاريخ: مؤتمر فيينا
لأكثر من عقدين، شهدت أوروبا اضطرابات وحروباً في أعقاب الثورة الفرنسية، واجتياح الجيوش الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت للأراضي الأوروبية في العام 1814 -بطريقةٍ لم يشهدها العام منذ عهد يوليوس قيصر، قبل أن يتنازل عن عرشه ويذهب إلى فرنسا- ما أدى إلى تغيير خريطة أوروبا السياسية.
بعد انتهاء الحرب وانتصار الدول الكبرى الحليفة على فرنسا، كان لا بدّ من اجتماعٍ يضمّ الدول المنتصرة لرسم خريطة أوروبا السياسية من جديد وإعادتها إلى أوضاعها السابقة.
انعقد المؤتمر في فيينا، بين 13 سبتمبر/أيلول 1814 و9 يونيو/حزيران 1815، وقد جمع الدول التي وقّعت على معاهدة باريس الأولى وهي: بريطانيا، روسيا، النمسا، بروسيا، إضافة إلى انضمام فرنسا لاحقاً.
فرغم العزلة التي فُرضت على فرنسا في المؤتمر فإنها أُشركت في أعمال المؤتمر بنهاية المطاف، ويعود الفضل في ذلك إلى براعة وزير خارجيتها وقتئذٍ -تاليران- حيث نجح من خلال دهائه السياسي في إقناع الدول بالموافقة على انضمام فرنسا إلى "لجنة الأربعة" لتصبح "لجنة خماسية".
وقد تمَّ اختيار العاصمة فيينا مقراً للمؤتمر، بسبب التضحيات التي تكبدتها النمسا منذ قيام الثورة الفرنسية، وتعويضاً عما ألحقه نابليون بها من هزائم متلاحقة تسبّبت بفقدانها لنفوذها السياسي في إيطاليا وألمانيا، إضافة إلى كونها عاصمة لإحدى الدول الكبرى في أوروبا وتميزها بموقعها المتوسط بين دول أوروبا.
وافق ممثلو القوى العظمى الأربع: النمسا، وبروسيا، وبريطانيا، وروسيا على إعادة تشكيل الحدود الأوروبية وموازنتها بطريقةٍ تحول دون اندلاع صراعٍ جديد في المستقبل. ونتيجة المعاهدة، خسرت فرنسا الأراضي التي ضمّتها بين عامي 1795 و1810، بينما اكتسبت بروسيا مزيداً من الأراضي.
على أي حال، ورغم إخفاقاته في نقاطٍ عدّة، أنشأ مؤتمر فيينا نظاماً قارياً جديداً عُرف باسم "الوفاق الأوروبي"، والذي ضمن سلاماً واستقراراً نسبيين للقارة طوال قرنٍ كامل. لكن يُمكن القول أيضاً إن كلّ ذلك انهار في العام 1914، وإنَّ المؤتمر مهَّد الطريق مباشرةً للحرب العالمية الأولى.
"اتفاقية بريتون وودز" التي نتج عنها صندوق النقد الدولي
بعدما لاح في الأفق انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، بادرت الحكومة الأمريكية إلى دعوة 44 دولة للاجتماع، في يوليو/تموز 1944، بمدينة بريتون وودز في ولاية نيو هامبشاير؛ للاتفاق على نظامٍ نقدي دولي جديد، بهدف تأمين الاستقرار الاقتصادي العالمي.
وكان الهدف من هذا النظام الجديد أن يوفر حرية التجارة، ويمدّ الدول الأعضاء بالسيولة الكافية، إضافةً إلى ضمان عدم فرض القيود في وجه المعاملات الدولية. كما هدفت اتفاقية بريتون وودز إلى تثبيت السياسات النقدية وأسعار الصرف بين دول العالم.
يبدو أن الولايات المتحدة أدركت أنه، بمجرد انتهاء الحرب، ستحتاج العديد من الدول الغنية سابقاً إلى استثماراتٍ كبيرة، وهو ما أتاح فرصة لاستحداث نظامٍ مالي عالمي لم يسبق تجربته في تاريخ العالم: نظام نقدي دولي مُنظّم.
نتج عن هذا الاجتماع، الذي استمر 3 أسابيع، وعُرف باسم المؤتمر النقدي والمالي للأمم المتحدة، إنشاء صندوق النقد الدولي الذي شكّل الخطوة التمهيدية لإنشاء البنك الدولي للإنشاء والتعمير لاحقاً.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى العام 1973، اضطلع مؤتمر بريتون وودز بدور تشكيل الشؤون الاقتصادية العالمية، ورسم الجغرافيا السياسية عموماً. كما يُمثّل هذا المؤتمر أيضاً النقطة التي أصبحت فيها أمريكا حقاً القوة العظمى الأولى في العالم، لتحلّ بذلك مكان بريطانيا.
تجدر الإشارة إلى أنه، ورغم مشاركة الاتحاد السوفييتي في أعمال المؤتمر ومناقشاته، فإنه لم ينضم إلى عضوية صندوق النقد الدولي، لأنه رأى فيه هيمنة واضحة للاقتصاد الأمريكي على النظام المقترح.
مؤتمر يالطا الذي جمع أقوى 3 رجال في العالم
في فبراير/شباط 1945، التقى ثلاثة رجال في أحد المنتجعات لتحديد مصير العالم. كانت ألمانيا النازية شبه منهارة، بعد أن عبرت قوات الحلفاء حدودها الغربية، وبعد أن طوّقت القوات السوفييتية برلين. أما في المحيط الهادئ، فكانت القوات الأمريكية تتقدم بثباتٍ نحو اليابان وسط معارك دامية.
وفي الوقت الذي كانت فيه جيوش الحلفاء على وشك الانتصار، اتفق الزعماء الثلاثة الكبار: الأمريكي فرانكلين روزفلت، والبريطاني ونستون تشرشل، والسوفييتي جوزيف ستالين على الاجتماع في منتجع يالطا بشبه جزيرة القرم، المطلّ على البحر الأسود.
التقى الزعماء الثلاثة لمناقشة ما سيحدث في أعقاب انتصار الحلفاء، بعدما كانوا قد التقوا سابقاً في طهران قبل عام. وخلال الفترة ما بين 4 و11 فبراير/شباط، جرت محادثات جماعية في قصر ليفاديا، مقر إقامة الوفد الأمريكي، والذي كان -ذات يوم- البيت الصيفي لآخر القياصرة الروس، نيكولا الثاني.
وبعد أسبوع من المحادثات، أعلن الزعماء الثلاثة قراراتهم للعالم؛ فبعد استسلامها غير المشروط، تم الاتفاق على تقسيم ألمانيا وبرلين إلى أربع مناطق سيطرة، واحدة لكل دولة من الدول المشاركة في يالطا، والرابعة حظيت بها فرنسا. كما ألزموا ألمانيا على دفع أقصى قدر ممكن من التعويضات، وشُكّلت لجنة في موسكو لتحديد المبلغ المترتب عليها .
واتفق الزعماء، أيضاً، على إجراء انتخابات ديمقراطية في جميع أنحاء أوروبا المحرّرة، وضمن ذلك بولندا، التي تقرر أن تكون لها حكومة جديدة "تضم قادة ديمقراطيين من بولندا نفسها ومن البولنديين في الخارج".
وكان الاتحاد السوفييتي قد شكل، بالفعل، حكومة شيوعية مؤقتة في وارسو، فقرر الزعماء إعادة تنظيم الحكومة القائمة وتوسيعها. ولكن على الرغم من أنه وافق، علانية، على إجراء انتخابات في أوروبا الشرقية، فإن قوات ستالين كانت تسيطر على مكاتب الدولة الرئيسية في جميع أنحاء وسط وشرق أوروبا. فلم تحدث انتخابات، بل فُرضت الحكومات الشيوعية على بلغاريا والمجر وعدة دول أخرى.
وعلى الرغم من أن لقاءات أخرى أكثر رسمية ستتبعه، فإن مؤتمر يالطا ألقى بظلاله على أوروبا ما بعد الحرب، ولا تزال صورة الزعماء الثلاثة واحدة من أشهر الصور السياسية على مرّ التاريخ. وفي الواقع، يُمكن القول إن هذا المؤتمر وضع أيضاً الأسس الرئيسية للحرب الباردة.
معاهدة روما.. الاتحاد الأوروبي الأول
هي اتفاقية أوروبية وقعت في العاصمة الإيطالية، وتمثل نواة لما عُرف لاحقاً بالاتحاد الأوروبي، الذي يُعتبر تجربة ملهمة للتكامل الاقتصادي والسياسي والديمغرافي. فهو، أي الاتحاد الأوروبي، ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، ويأتي في المرتبة الثالثة بعد الهند والصين من حيث عدد السكان.
وعلى الرغم من الحروب المستمرة الشرسة التي خاضتها إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية -من ضمن قوى عظمى أخرى- على مدار قرون، يصعب تخيّل عدم تعاون هذه الدول الأوروبية بعضها مع بعض، اليوم.
تغيّر هذا الوضع الآن بسبب إلى حدٍ كبير، إنشاء الاتحاد الأوروبي، حيث الأعداء السابقون متحدون ليس فقط من خلال تحالفات عسكرية دولية مثل حلف شمال الأطلسي "الناتو"، لكن أيضاً بموجب الاقتصاد المشترك والحدود المفتوحة والعلاقات السياسية الأوثق من أي وقت مضى.
لم يكن أي من هذا سيحدث لولا معاهدة روما، التي وقّعتها فرنسا وألمانيا الغربية وبلجيكا وإيطاليا وهولندا ولوكسمبورغ في عام 1957. شكَّلت المعاهدة نواة التكتل الاقتصادي الأوروبي، الذي سيصبح يوماً ما الاتحاد الأوروبي. ربما لم يؤدِ أي اجتماع في التاريخ إلى مستوى تقارب بين الدول بالقدر الذي حققته معاهدة روما.
هدفت الدول الموقعة: بلجيكا، وفرنسا، وإيطاليا، ولوكسمبورغ، وهولندا، وألمانيا الغربية إلى خلق سوق أوروبية مشتركة، والإسهام في تحسين الوضع المعيشي لشعوبها التي كانت تعاني من ظروفٍ متدهورة نتيجة آثار الحرب العالمية الثانية على البنية الاقتصادية الأوروبية.
ونصت المعاهدة على توسيع التعاون الاقتصادي بين الدول الأوروبية، وعلى تخفيض الرسوم الجمركية وتأسيس اتحاد جمركي مشترك فيما بينها، إضافةً إلى تأسيس سوق مشتركة للسلع والعمال والخدمات ورؤوس الأموال داخل الدول الأعضاء. إلى جانب ذلك، نصّت المعاهدة على تأسيس سياسات مشتركة للنقل والزراعة، وصندوق اجتماعي أوروبي.
معاهدة روما كانت سبباً أساسياً في رفع المستوى المعيشي للأوروبيين، خلال الفترة الانتقالية ما بين 1958 و1970، بعدما تضاعفت نسبة المبادلات التجارية ست مرات.
معاهدة بريست ليتوفسك
تعد معاهدة بريست ليتوفسك أقل شهرة من معاهدة فرساي، التي تعاملت مع تداعيات الحرب العالمية الأولى. ومع ذلك، لا تزال آثارها محسوسة حتى يومنا هذا.
بعد الثورة البلشفية الشيوعية، بقيادة فلاديمير لينين وسقوط القيصر، أرادت روسيا الانسحاب من الحرب العالمية الأولى. قبلت قوى المركز: ألمانيا، والنمسا، والإمبراطورية العثمانية، وبلغاريا انسحاب روسيا لكنها فرضت مطالب قاسية على الحكومة البلشفية الجديدة.
نالت 11 دولة استقلالها عبر أوروبا وآسيا، واكتسبت ألمانيا أراضٍ في بولندا ودول البلطيق، كما أصبحت أوكرانيا جمهورية خالية من السيطرة الروسية.
وقعت معاهدة بريست ليتوفسك في 3 مارس/آذار 1918 ما بين الحكومة البلشفية الجديدة في روسيا ودول المحور (ألمانيا، النمسا-المجر، بلغاريا، الإمبراطورية العثمانية). وقد أنهت هذه المعاهدة مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى.
وُقعت المعاهدة بعد شهرين من المفاوضات في مدينة بريست ليتوفسك، التي كانت تسيطر عليها ألمانيا، وتقع حالياً في بيلاروسيا. تخلّى السوفييت بموجب المعاهدة عن جميع التزامات الإمبراطورية الروسية تجاه الحلفاء، وأصبحت واحدة من بين 11 دولة مستقلة في أوروبا الشرقية وغرب آسيا.
تعتبر هذه المعاهدة أول معاهدة دبلوماسية مُصوَّرة في التاريخ، وتحمل أهمية خاصة اليوم لأنها استُخدمت مبرراً للهجوم الروسي الحالي ضد أوكرانيا. ليس ذلك فحسب، بل يمكن القول إنَّ هجوم عام 2008 على جورجيا كان مُبرَّراً جزئياً بمعاهدة بريست ليتوفسك.
وقبل كل شيء، لا شك في أن فلاديمير بوتين شخصياً ينظر إلى تلك المعاهدة على أنها خطأ فادح ارتكبه أسلافه في الماضي، يحدّد أهداف سياسته الخارجية في الحاضر.