يرتدي سترة وربطة عنق، ويحمل صندوقاً معدنياً صغيراً، ويقف في حلبة مصارعة الثيران كأنه يريد الانتحار، هكذا يظهر العالم خوسيه مانويل رودريغيز ديلجادو في أحد الفيديوهات التي توثق إحدى تجاربه.
وعلى عكس المتوقع، لا ينتهي الفيديو بمقتله أو إصابته رغم هجوم الثور باتجاهه عدة مرات.
كانت هذه التجربة المحفوفة بالمخاطر للتحكم في السلوك، ليست الأولى ولا الأخيرة للعالم الذي حاول التحكم باستجابات الدماغ لدى الحيوانات والبشر عن طريق التحفيز الكهربائي وزرع شرائح إلكترونية فيه.. إليكم القصة كاملة:
تخصص في دراسة وظائف الأعضاء واهتم بالعقل البشري بشكل خاص
ولد ديلجادو في إسبانيا عام 1915، وتطلع إلى أن يصبح طبيباً متخصصاً في صحة واضطرابات العين مثل والده. لكن بعد دراسته لعلم وظائف الأعضاء والأعصاب، قرر التركيز على دراسة الدماغ البشري.
من عام 1942 إلى عام 1950، بدأ خوسيه البحث في الفسيولوجيا العصبية عن استئصال الدماغ الانتقائي والتحفيز الكهربائي في الحيوانات، ونشر 14 مقالاً في هذا المجال، وفاز بالعديد من الجوائز.
وحصلت النقلة النوعية في مجال خوسيه البحثي في عام 1950 عندما فاز بمنحة دراسية في جامعة ييل في قسم علم وظائف الأعضاء، تحت إشراف جون فولتون الذي عمل رائداً في عمليات شق الفص الجبهي عند مرضى الفصام.
انتقاله لجامعة ييل كان بداية تجاربه في التحكم في أدمغة الحيوانات
ازدهرت أبحاث ديلجادو في جامعة ييل، وترقى إلى درجة أستاذ في علم وظائف الأعضاء والطب النفسي، ثم خلف فولتون في النهاية كمدير للبحوث.
وقد وصف بأنه "ساحر تكنولوجي"، واخترع أقطاباً كهربائية أنشأت اتصالات ثنائية الاتجاه عند زرعها في الدماغ عند الحيوانات؛ ما سمح بتحفيز مناطق مختلفة فيه، ما نتج عنه تغييرات في التأثير والسلوك.
خلال هذه التجارب، لاحظ ديلجادو تأثيرات الكهرباء على سلوك الحيوانات وخاصة القرود، عندما قام بتحفيز مناطق الدماغ التي تتحكم في السلوك العدواني.
كما أنه حاول في بعض الأحيان تدريب الحيوانات المهددة لمواجهة عدوانية القرود الأخرى التي أرهبتها.
وبعد نجاح بعض تجاربه الأولية على الحيوانات، بدأ طموح ديلجادو يتوسع لتشمل أبحاثه مرضى الصرع المزمن والانفصام.
تطبيق التجارب على البشر أثار استنكاراً واسعاً
قام ديلجادو بتطبيق التحفيز الكهربائي على أدمغة البشر أيضاً. وفي عام 1952 أصبح أول باحث يقدم تقريراً عن الآثار طويلة المدى لزرع الأقطاب الكهربائية في شرائح بأدمغة البشر.
وفي بحث لاحق له، ذكر أن أجهزته أثارت حماساً شديداً وغضباً وضحكاً ووداً وحتى شهوة لدى البشر، عندما قام باستخدامها على مجموعة من مرضى الخرف والانفصام وبعض المرضى الآخرين.
لكن هذه التجارب قوبلت باستهجان كبير من قبل العديد من الباحثين والعلماء المعاصرين له، لأنهم اعتبروا أن خوسيه كان يمهد الطريق للسيطرة على العقل.
لكن خوسيه كان يرد دائماً أن تقنياته لا يمكن أن تنتج أفكاراً محددة، أو توجه استجابة عدوانية أو عاطفية نحو هدف معين، أو تدفع الأشخاص لأداء مهام بعينها، ولكنها لخدمة مصلحة الإنسان.
وأشار إلى أن أبحاثه هي لهدف "أخلاقي واجتماعي لتعزيز المعرفة العلمية ورفاهية الإنسان"، وأن "البحث أخلاقي"، كما يشير موقع Discover Magazine.
لم يكن الاستهجان العام العائق الوحيد لاستمرار تجارب خوسيه على البشر، إذ إن اعتماد دواء الكلوربرومازين لمرضى الفصام في عام 1952، كان نقطة تحول في تاريخ الأدوية العصبية والنفسية ضد التدخل الجراحي أو الكهربائي للتحكم بالدماغ.
تجربة التحكم في الثور التي أبهرت العالم
لم يتوقف خوسيه عن تطوير أبحاثه خلال عقدين متتاليين من الزمن بين عامي (1950-1970)؛ إذ ألف الكثير من المنشورات العلمية عن التحفيز الكهربائي للقطط والقرود والمرضى، ودوره المحتمل في علاج الأمراض الذهانية خاصة.
وفي عام 1963، قام خوسيه بتجربة فريدة وغير مسبوقة جذبت انتباه العالم بأكمله له، بما في ذلك مقال عنه نُشر في الصفحة الأولى في صحيفة نيويورك تايمز. وكان ذلك عندما زرع جهاز التحفيز الكهربائي الذي طوره بنفسه، وهو عبارة عن شريحة إلكترونية في دماغ ثور مقاتل.
يظهر فيديو يوثق التجربة وقوف خوسيه في مواجهة الثور وهو يلوح برداء أحمر ليهاجمه الحيوان الهائج.
لكن عندما هاجمه الحيوان وعلى بعد خطوات فقط، استطاع خوسيه إيقافه عن طريق تنشيط الأقطاب الكهربائية باستخدام جهاز تحكم يرسل موجات لاسلكية في يده، وكأن السلوك العدواني لدى الحيوان تبخر فجأة.
وقد أوضحت صحيفة نيويورك تايمز في ذلك الوقت، في مقال على صفحتها الأولى، أن هذا كان "العرض الأكثر إثارة الذي تم إجراؤه على الإطلاق لتعديل متعمد لسلوك الحيوان، من خلال التحكم الخارجي في الدماغ".
ولكن في عام 2005، قام فريق من الأطباء في مؤسسة بحثية برفض التجربة ووصفها بأنها "حيلة دعائية مشهورة".
محاولة أخرى للقيام بتجاربه على البشر تقابل بالرفض
بعد فترة وجيزة من تجربة الثور الشهيرة، تمت دعوة ديلجادو للمساهمة بكتابة مجلد في سلسلة علمية يتألف مجلس تحريرها من 12 من أبرز باحثي العالم في الأخلاق وعلم الاجتماع والاقتصاد والروحانية والعلوم، بما في ذلك 3 من الحائزين على جائزة نوبل.
اختار خوسيه عنواناً استفزازياً لمجلده: "التحكم المادي في العقل.. نحو مجتمع متحضر نفسياً". كان النص والنبرة فيهما الكثير من التحدي، على الرغم من أن مناقشته لاكتشافاته العلمية كانت متواضعة وموضوعية؛ إذ إن لغته تتضمن أن العلم قد ينجز ما فشل الدين في تحقيقه!
اصطدم هذا الخطاب والمبالغة مع روح العصر العلمي والسياسي والاجتماعي لذلك العصر، ما أدى إلى وقوع أبحاث ديلجادو في جدل كبير أنهى حياته المهنية في أمريكا، بعد أن تعرضت أبحاثه وأفكاره للهجوم الكبير، كما يشير موقع Nature.
العودة إلى مدريد ثم موته في أمريكا بعد نشره الكثير من الكتب والأبحاث
بعد ذلك، قبل ديلجادو عرضاً لشغل منصب رئيس قسم العلوم الفسيولوجية في كلية الطب الجديدة في مدريد، وانتقل إلى هناك في عام 1974.
على مدار ربع القرن التالي، واصل خوسيه نشر أبحاثه وأفكاره الفلسفية، ونشر أكثر من 500 مقالة و6 كتب لاقت رواجاً واسعاً.
في السنوات الأخيرة من حياته، عاد خوسيه وزوجته إلى أمريكا وعاشا في سان دييغو حيث توفي هناك.