إذا كان يجب علينا أن نثق في أشخاص غرباء عنا تماماً، فهؤلاء الأشخاص هم الأطباء والممرضون، الذين نترك حياتنا بين أيديهم لمساعدتنا في تخطي آلامنا ومشاكلنا الصحية؛ لهذا عندما يكون واحد من هؤلاء الذين نأتمنهم على حياتنا إنساناً غير سوي، أو له ميول سيكوباتية فإن الخطر يصبح داهماً.
بين أعوام 1984 و2003 كان الممرض تشارلز كولين واحداً من هؤلاء الذين استغلوا ضعف مرضاهم وثقتهم فيهم وفي المستشفى المعالج لهم، وقام بقتل بين 30 إلى 40 مريضاً بعد حقنهم بجرعات قاتلة من الأدوية، هذه قصة القاتل المتسلسل الأكثر خطورة في التاريخ الحديث تشارلز كولين.
البداية.. حياة مضطربة
في اعترافاته ذكر تشارلز كولين أنه كان طفلاً تعيساً، وعاش طفولة مضطربة عايش فيها أولى مراحل تحوله إلى شخص مضطرب نفسياً. ولد تشارلز إدموند كولين، في فبراير/شباط عام 1960، لأب سائق حافلة، وأم ربة منزل، وكان تشارلز هو الابن الثامن لهذه الأسرة، وتوفي والده وهو رضيع، ولكنه اعترف لاحقاً بأن الأب كان مُسيئاً وصعب المراس وشريراً.
حاول تشارلز الانتحار أول مرة وهو لم يتعدّ التاسعة من عمره عندما شرب مركّباً كيميائياً، وكانت هذه أول محاولة للانتحار من بين 20 محاولة طيلة حياته، وكانت طفولته مليئة بالاضطرابات والخيالات الغريبة التي كان أغلبها افتتانه الغريب بالأدوية والكيماويات والطب.
من البحرية إلى التمريض
في سن 17 عاماً توفيت أمه، وابتعد تشارلز عن أشقائه ولم يكن لديه أي خيار في استكمال تعليمه الجامعي، فسارع بالفرار إلى الخدمة العسكرية، وبالفعل تم قبوله للخدمة في سلاح البحرية الأمريكي عام 1978، وهنا كانت بداية أعراض الاختلال العقلي في الظهور على كولين.
في أثناء خدمته العسكرية على متن إحدى السفن الحربية عُثر عليه مرتدياً أحد أردية الأطباء العسكريين، وقفازات وكمامة جراحية، ولم يتبيّن للقادة وقتها ما الذي كان ينوي فعله، ولكن كان سجل خدمته قبل تلك الواقعة ضعيفاً بالأساس، ومليئاً بالمخالفات؛ فتم نقله إلى خدمات أكثر صعوبة تعثر فيها كولين أكثر، وكانت ثاني محاولات انتحاره أثناء خدمته العسكرية، فتم تسريحه بدعوى عدم استقراره ذهنياً عام 1984.
بعدها خرج تشارلز إلى الحياة المدنية بعد فترة إيداع في إحدى المصحات النفسية، والتحق بمدرسة التمريض، وتزوج من إحدى زميلاتهن وأنجب منها طفلتين، وسرعان ما وجد عملاً في أحد المراكز الطبية بولاية نيوجيرسي، وكانت هذه بداية رحلته نحو جرائمه الوحشية.
القاتل المتسلسل: الحقن غير المبرر
في مركز سانت برناباس الطبي في نيوجيرسي قام تشارلز كولين بارتكاب أول جريمة قتل بالحقن، وكان ضحيته "جون ينجو" قاضياً أمريكياً كان قد دخل المركز الطبي لعلاج حالة حساسية شديدة لأحد الأدوية، التي تسبب سيولة الدم، وكان كولين متابعاً لحالته فقام بحقن المحلول المعلق بجوار فراش القاضي بعقار يسبب الهبوط، لاحقاً اعترف كولين بقتل ما يقرب من 11 مريضاً في مركز سانت برناباس الطبي، كان من بينهم مريض بالإيدز حقنه كولين بجرعة عالية من عقار الأنسولين المستخدم في علاج مرض السكري، والذي يسبب انهيار وظائف الجسم وموت خلايا المخ إذا حُقن بجرعات عالية.
وأثناء عمله في سانت برناباس، لفتت الأنظار ووجود آثار لأدوية معينة وبكثرة في أكياس المحاليل للمرضى، الذين يعالجون تحت رعاية كولين، مثل "الإنسولين" و"الديجوكسين" المحفز الذي يستخدم في علاج بعض حالات قصور وظائف القلب، وعلى إثر هذا تم التحقيق في وقائع استخدام هذه الأدوية، ولكن إدارة المركز الطبي لم تستطع إثبات حقن تشارلز كولين لضحاياه بهذه العقاقير التي لها أثر قاتل عليهم.
وفي عام 1992 ترك تشارلز كولين مركز سانت برناباس والتحق للعمل ممرضاً في مستشفى "وارن" في الولاية نفسها نيوجيرسي، وهناك- وبحسب اعترافاته لاحقاً- قام بحقن 3 سيدات مسنات دخلن إلى المستشفى لتلقي علاجات أمراض بسيطة مثل البرد أو الحساسية بمادة ديجوكسين، والتي تسببت في وفاتهم خلال سويعات قليلة؛ واحدة منهن أخبرت أقاربها أن أحد الممرضين تصرف "بخبث" وهو يحقنها بمادة غريبة، ولكن أحداً لم يصدق العجوز المسنة.
تشارلز كولين والسقوط في بئر الجنون
في عام 1993، وبعد أن تحولت الشكوك نحو تشارلز لتصرفاته المريبة وإهماله الطبي ازداد الطين بلة، بعد أن طلبت زوجته الطلاق منه، فصار يتغيب عن عمله، ويقوم بتصرفات غريبة مثل وضع سائل القداحات سريع الاشتعال في مشروبات البعض في المقاهي، ومكالمة دور إعداد الجنائز وتهديدهم بسرقة الجثث، وطرد من مسكنه بعد شكاوى من غرابة تصرفاته، وسكن أحد الأقبية في بناية قديمة.
بعد أن تركته زوجته التحق كولين للعمل بمستشفى آخر في نيوجيرسي باسم "موريس ميموريال"، ولكن عمله كان لا يزال يتسم بالإهمال والتصرفات المثيرة للشكوك والريبة، فترك العمل والتحق بمصحة للعلاج النفسي، ولكن حالته لم تتحسن، وحاول الانتحار عدة مرات.
سقوط ملاك الموت
بين أعوام 1997 و2002 حقن تشارلز كولين ما يقرب من 20 مريضاً في 3 مستشفيات بجرعات عالية وقاتلة من الإنسولين، وعقار الديجوكسين، وكان من بين المستشفيات التي عمل بها مركز سومرست الطبي في نيوجيرسي، الذي كشف أمر تشارلز كولين، وتم إجراء تحقيق معه إثر العثور على أدلة تفيد بأنه يطلع على ملفات تاريخ المرضى في المستشفى بشكل مثير للريبة، بجوار اكتشاف حقنه لمريضين بعيدين عن رعايته بجرعات أنسولين عالية أدت إلى قتل أحدهم، لكن للغرابة لم يُبلغ المستشفى الشرطة عن جرائمه، خوفاً من انتشار سمعة سيئة ومن مقاضاة المرضى، وهو ما اعتبره بعض خبراء الجريمة مشاركة مباشرة في جرائم كولين.
في عام 2003 توفي آخر ضحايا تشارلز كولين من مرضاه، الذين كان يشرف على رعايتهم في مركز سومرست الطبي في نيوجيرسي، نتيجة اختلال نسبة السكر في الدم، وعندما اكتشف أثر حقن كولين المريض بالإنسولين تم إبلاغ السلطات فألقي القبض عليه، وتم إجراء تحقق موسع ظهرت فيه سجلات وتاريخ تشارلز الحافل بالمخالفات والتصرفات المثيرة للريبة.
في عام 2004 وافق تشارلز كولين على الاعتراف بجرائمه كاملة مقابل عقوبة مخففة، واعترف بقتل 40 مريضاً، ولكن بعض رجال السلطة آنذاك اعتقدوا أن عدد الضحايا الذين لم يستطع أحد ربط وفاتهم بتشارلز كولين قد يتخطى هذا الرقم بكثير، وربما يصل إلى المئات.
وفي أثناء محاكمته 2006 كان تشارلز يتصرف بشكل غريب وغير لائق، وظل يسبّ القاضي القائم على محاكمته، وطلب منه التنحي عن القضية، وكان ذلك أحد أسباب الحكم عليه بستة أحكام مدى الحياة من دون إمكانية إطلاق سراح مبكر، ويقبع كولين اليوم في أحد سجون نيوجيرسي مشددة الحراسة حتى عام 2403.