كان السفر عبر مساحات شاسعة من الأرض جزءاً مهماً من الحياة في الشرق الأوسط في العصور الوسطى، وكانت التجارة من أبرز دوافع الترحال آنذاك بجوار الحج وزيارة المقدسات، وفي بعض الحالات، ارتحل الناس لمجرد حب السفر والترحال، كما أن تطور التجارة الإسلامية عبر "طريق الحرير" كانت أحد أبرز الروابط بين الشرق الأوسط والأراضي الأبعد في آسيا، مثل الصين وما حولها، بخلاف تطور التبادل الثقافي بين بلدان الشرق والغرب.
وإذا ذكر الرحالة شرق الأوسطيين المشاهير من العصور السابقة، فيأتي ذكر المسعودي، أو كما عرف باسمه الكامل (أبي الحسن علي بن الحسين المسعودي)، والذي كان من أوائل الرحالة العرب الذين سجلوا مشاهداتهم خلال السفر، والذي سرد تفاصيل زيارته إلى بلاد فارس والهند في القرن العاشر الميلادي، كما لا يمكن أن يغفل التاريخ عن ذكر الأندلسي ابن جبير، الذي دوّن أوصاف رحلاته إلى بلاد الشام (سوريا) وإيطاليا.
وفي التقرير التالي نذكر أبرز 3 رحالة شرق أوسطيين استكشفوا العالم، ودونوا رحلاتهم في مراجع وكتب أعطت لمحات مهمة عن الحياة في العديد من البلدان في العصور الوسطى.
أوليا جلبي
عُرف أوليا جلبي، أو (أوليا تشِلبي) بأنه أحد أبرز الكُتاب العثمانيين لأدب الرحلات والسفر، بدأ أسفاره ورحلاته في القرن الـ17، وزار أوروبا وبلاداً وصل عددها إلى 23 دولة خلال مسيرة ترحاله التي استمرت ما يزيد على 50 عاماً.
ولد محمد أغا ظلي عام 1611، في أسرة متوسطة من منطقة كوتاهية في إسطنبول، وتعلم أصول الدين والقرآن طفلاً وشاباً، وترقى أثناء أسفاره ليحصل على لقب "أوليا" شلبي، والذي يعني باللغة التركية "النبيل".
وبدأ رحلات أسفاره شاباً، وروت عدة مصادر عنه أنه رأى في حلم في ليلة عيد ميلاده الـ20 النبي محمداً يحثّه على حزم متاعه والانطلاق حول العالم.
وتذكر مصادر أخرى أن أوليا جلبي قد ارتحل إلى دول عديدة؛ كانت أبرزها ما جاور أرجاء الإمبراطورية العثمانية: روسيا وألبانيا وبلغاريا واليونان ورومانيا ويوغوسلافيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وسوريا ولبنان ومصر والسودان وفلسطين وبولندا وإيران والعراق والأردن والسعودية والحبشة والصومال وجيبوتي.
وكان من أبرز ما رواه أوليا جلبي أنه قد التقى بسحرة وبحارة ومحاربين، وعندما وصل بلاد أوروبا عبر ألمانيا، وإلى هولندا في عام 1663، دُون عنه أنه التقى ببعض سكان أمريكا الأصليين داخل أحد قصور ضيافة روتردام.
كما احتوت أعمال أوليا جلبي الكثير من الوقائع والتدوينات لآثار وشواهد عظيمة في هذه العصور، منها على سبيل المثال رحلة عبر نهر نيريتفا في البوسنة، وذكره لجسر (موستار) الشهير الذي صمَّمه المهندس العثماني معمار خير الدين، وأبدى إعجابه به وجمال معماره.
ورغم تشكيك البعض في روايات أوليا جلبى؛ إلا أن كُتبه احتوت العديد والعديد من التفاصيل الحقيقية المؤكدة، تجعل كتاباته نافذة مثيرة للاهتمام على الحياة الأوروبية وشرق الأوسطية في فترة ما بعد العصور الوسطى. لاحقاً استقر أوليا شلبي في وقت متأخر من حياته بالقاهرة في مصر، حيث توفي عام 1684، واكتُشفت كتاباته بعد عقود من وفاته ونُقلت إلى إسطنبول للاحتفاظ بها.
أحمد بن فضلان
واحد من أشهر الأسماء في عالم الكتابات الترحالية وتدوين المشاهدات الغربية في العصور القديمة، ولم نكن لنعرف الكثير عن عوالم الشمال الأوروبي وسيرة جماعات الفايكنج ما لم نقرأ أعمال ابن فضلان، المولود في بغداد عام 879م، في أبرز فترات الخلافة العباسية.
وعلى الرغم من عدم توافر معلومات كثيرة عن حياة هذا الرحالة العربي أو عائلته، إلا أن نصوصه وأعماله كانت ولازالت الأهم في عالم التاريخ المقترن بالترحال، بالإضافة إلى ما دُوِن عن معرفته الكبيرة بعلوم الدين والفقه الإسلامي، والتي كان لها أبرز الأدوار في انطلاقه إلى عالم الترحال.
اختار الخليفة العباسي المقتدر بالله أحمد بن فضلان عام 922م ليرسله إلى شعب مملكة الصقالبة (بلغار الفولغا)، الذين عاشوا في منطقة عرفت باسم تتارستان، شمال شرق البحر الأسود، في الأراضي التابعة حالياً لروسيا الحديثة، وهذا عندما اعتنق الملك ألميس، ملك البلغار، الإسلام في العام السابق، واتخذ اسم جعفر بن عبد الله، وطلب من الخليفة إرسال شخص ما لتعليم شعبه الدين الإسلامي.
وقع الاختيار على أحمد بن فضلان من أجل أداء هذه المهمة، لينطلق في رحلة ملحمية عبر آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية، حيث التقى بمختلف شعوب الترك، وكذلك شعوب الروس، الذين عاشوا على طول نهر الفولغا، وكانوا معروفين باسم "الفايكنج الروس"، وهكذا مثلت الكتابات المستفيضة لأحمد بن فضلان بعض أبرز الأخبار والسمات القديمة، إن لم تكن الوحيدة، حول هذه المنطقة خلال تلك الفترة، التي احتوت تفاصيل مهمة حول شعب الفايكنج وطقوسه وعاداته.
على الرغم من أنَّ الهدف الأساسي من رحلات ابن فضلان كان تقديم المساعدة الدينية لشعب مملكة الصقالبة، إلا أن اسكتشاف حياة شعب الروس، وهم مجموعة الفايكنج الذين صادفهم على طول نهر الفولغا، وحكاياتهم الأسطورية كان هدفاً آخر أثار شغف الرحالة الشهير.
ويصف ابن فضلان هؤلاء الرجال بأنَّهم: "مسلحون دائماً بالسيوف والخناجر، وأجسادهم مليئة بالوشوم من أظافر الأصابع إلى الرقبة، بينما تضع النساء على كل صدر صندوقاً معدنياً مصنوعاً إما من الحديد أو الفضة أو النحاس أو الذهب، بحيث تُمثّل قيمة المعدن مقدار ثروة الزوج".
كما جاءت أيضاً تدوينات متناقضة من أحمد بن فضلان تجاه أفراد تلك المجموعة؛ إذ انبهر بقوتهم ومهاراتهم البدنية، فكتب: "لم أر قط معايير جسدية مثالية بهذا الشكل الرائع، قامة طويلة متناسقة مثل أشجار نخيل التمر، وبشرة شقراء وردية"، ولكنه ذكر اشمئزازه من أساليب حياتهم بسبب الافتقار إلى معايير النظافة الشخصية، فقال: إنَّهم "أقذر مخلوقات الله؛ ليس لديهم حياء في التغوط والتبول، فهم مثل الحمير البرية"، كما قدم ابن فضلان أيضاً وصفاً مفصلاً لمراسم جنازة أحد نبلاء الروس، والتي تضمنت طقساً وحشيًا بالتضحية بامرأة شابة.
ابن بطوطة
رحالة آخر، يكاد لا يقترن اسم بالرحلات سواه، فكتابه الشهير (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) يعد واحداً من أبرز ما قدِّم في تاريخ الرحلات عربياً وعالمياً.
ولد أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي، المعروف بـ"ابن بطوطة"، عام 1304 في مدينة طنجة بالمغرب، في عائلة من فقهاء الدين الإسلامي.
وفي رحلاته قطع ابن بطوطة مسافة مذهلة تبلغ قرابة 120 ألف كيلومتر من الصين إلى إسبانيا، بجانب أنَّ الكثير من تلك الكيلومترات قد قطعها سيراً على الأقدام، وفي قوافل تجرها الحيوانات، وهو ما يجعل رحلاته استثنائية وغير عادية.
بدأ ابن بطوطة مسيرته لاستكشاف المجهول لمدة 29 عاماً، بدايةً من عام 1325، وكان الدافع وراء الرحلات الممتدة هو حبه الشديد للتجوال، وكتب ابن بطوطة، خلال فترة عمله قاضياً في جزر المالديف: "من السهل الزواج في هذه الجزر بسبب ضآلة المهور ومتع الحياة التي تقدمها نساء هذا المجتمع، عندما ترسو السفن، يتزوج طاقم السفينة من النساء المحليات، ثم يطلقون هؤلاء الزوجات عندما ينوون المغادرة. إنَّه نوع من الزواج المؤقت، فلا تغادر نساء هذه الجزر بلادها أبداً".
في وقت مبكر من رحلاته الاستكشافية بمدينة الإسكندرية المصرية الساحلية، التقى ابن بطوطة برجل صوفي يدعى الشيخ برهان الدين، الذي تنبأ له بالسفر إلى الهند والصين، وطلب من ابن بطوطة إرسال التحية إلى بعض معارفه في هذه الأراضي الأجنبية، كما كتب ابن بطوطة في مذكراته: "اندهشت من تنبؤاته، ودارت في ذهني فكرة الذهاب إلى تلك الأراضي. لم تنقطع رحلاتي قط حتى قابلت هؤلاء الأشخاص الثلاثة الذين سمَّاهم الشيخ برهان الدين ونقلت لهم تحياته". كما ذهب ابن بطوطة، بعد أدائه فريضة الحج للمرة الثانية، من جدة إلى القرن الإفريقي، وزار الصومال، وأشاد بكرم شعبها.
كما أنه اتّجه جنوباً على طول الساحل الشرقي لإفريقيا إلى داخل كينيا وتنزانيا، حيث اكتشف المسجد الجامع الكبير في جزيرة كيلوا، وذكر أنها واحدة من أجمل المناطق المبنية بأناقة. كانت كيلوا، في ذلك الوقت، ميناءً مزدحماً، وبوابة عبور إلى وسط شرق إفريقيا.
كانت رحلته الأخيرة إلى إمبراطورية مالي الشهيرة قديماً، التي يحكمها مانسا سليمان. بعد ذلك، استقر ابن بطوطة في موطنه الأصلي؛ طنجة في عام 1354، وبدأ تدوين مذكراته ليترك للعالم تحفة قيّمة بعنوان (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، وهو الكتاب المعروف أيضاً باسم "رحلة ابن بطوطة".