تكمن عبقرية لوحة "غرنيكا"، لبابلو بيكاسو، في كونها تجمع بين المدرستَين السريالية والتكعيبية؛ لقد كانت لوحة صادمة بسبب أسلوبها التكعيبي الحديث، الذي نجح بتسليط الضوء على موضوعها المؤلم.
وبعد عرضها في معرض باريس الدولي عام 1937، ذهبت لوحة غرنيكا في جولةٍ عالمية على مدار عامين متتاليين لدعم القضية المناهضة للفاشية وجمع الأموال لصالح قوات الجمهورية الإسبانية.
في الخمسينيات من عمره، كان بابلو بيكاسو يعيش في فرنسا بدلاً من موطن ولادته إسبانيا، بعدما أنتج مجموعة متنوعة من الأساليب الفنية على مدار حياته الفنية؛ من الأسلوب التكعيبي الذي ابتكره مع جورج براك، إلى المدرسة السريالية التي عبَّر عنها سلفادور دالي في لوحته الشهيرة "إصرار الذاكرة".
عندما بدأت الحرب العالمية الثانية في العام 1939، غادرت "غرنيكا" أوروبا وأُرسلت إلى متحف الفن الحديث في نيويورك للحفاظ عليها. وقد واصلَ المتحف عرض اللوحة الجدارية الضخمة في مختلف المدن الأمريكية وحول العالم، طيلة 20 عاماً، الأمر الذي ساهم في تحويل بيكاسو والمدرسة التكعيبية إلى أسماءٍ مألوفة على مستوى العالم.
يصعب القول ما إذا كان قصف مدينة غرنيكا سيحظى بمثل هذا الاهتمام الدولي، من دون دور لوحة بيكاسو. فهذه اللوحة تجسّد باحترافية مُتقنة مدى وحشية ورعب الحرب الحديثة، كما تُمثّل تحذيراً أبدياً ممّا يمكن للجنس البشري فعله.
ويُعدّ قصف غرنيكا واحداً من أكثر أعمال العنف وحشية خلال الحرب الأهلية الإسبانية، طال البلدة المدنية من قِبل القوات الجوية الألمانية، بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو، ضدّ الجمهورية الإسبانية.
تحليل لوحة غرنيكا ورمزيتها
يأتي التأثير البصري الأساسي لـ"غرنيكا" من مجموعة الشخصيات المُشوّهة والمحتضرة المُقدَّمة داخل اللوحة، باستخدام اللون الأسود والأبيض والرمادي. نحن نعلم بالفعل الحدث الذي دفع بيكاسو لرسم هذه اللوحة "قصف غرنيكا"، لكنه أدخل الكثير من الرمزية، وهو ما ساهم في إيصال معنى أعمق له وللشعب الإسباني على حدّ سواء.
تعبّر اللوحة عن مشهدٍ يحدث داخل غرفة، يقف في وسطها حصاناً بعيون زائغة ووجهٍ حزينٍ ومتألم للغاية، حيث يمكنك الشعور بصوت صراخه بعد ملاحظة الفجوة الموجودة في جانبه، وكأنَّ رمحاً اخترق جسده من الخلف إلى الأمام.
وإلى يسار الغرفة، يوجد ثورٌ يبدو وكأنه يحرس الأم والطفل، أو ربما يخيّم عليهما مثل ظلّ الحرب. وفي الخلفية البعيدة، يمكننا رؤية صراخ طائرٍ في السماء.
وفي حين قد يرمز الثور إلى الحرب، أو إلى إسبانيا بشكلٍ خاص (الشهيرة بمصارعة الثيران)، يُعتقد أن الحصان المتألم كناية عن الموت غير المستحق للأبرياء، نتيجة الحروب.
تتجلّى الدلالة الرمزية بوضوح في رسم بيكاسو لمصباحٍ كهربائي يُلقي ضوءاً صارخاً من الأعلى، في تناقضٍ حاد مع مصباح الزيت المحمول باليد. وقد وضع بيكاسو هذين العنصرين بجوار بعضهما البعض لسببٍ وجيه.
فهو يريد إظهار العالم القاسي للتقدّم البشري؛ ورغم كل الخير الذي يجلبه لنا، من الكهرباء إلى السيارات والطائرات، فإنه يجلب معه الموت والدمار أيضاً.
مثل الحصان المحتضر، يرمز موت الطفل بين ذراعَي أمه إلى معاناة الأبرياء. نستطيع ببساطة رؤية فظائع الحرب في كلّ مكان آخر في هذه اللوحة، حيث توجد أطراف بشرية مصابة ومقطوعة، وأفواه تتدلى في صرخاتٍ مكتومة وعيون جاحظة في حالة رعب.
يتمدّد جنديّ مقتول تحت الحصان، ويده المقطوعة التابعة لذراعه اليمنى تحمل سيفاً مُحطّماً. لا عزاء للإنسانية في لوحة غرنيكا، لا يوجد سوى الموت والدمار.
كم تبلغ قيمة لوحة غرنيكا، ومن يملكها؟
رسم بيكاسو لوحة غرنيكا في 35 يوماً فقط؛ وهو إنجازٌ مذهل لمثل هذا العمل الضخم، الذي شكّل علامةً فارقةً في التاريخ الحديث.
لم تُعرض اللوحة للبيع في مزادٍ قط، لذا يصعب تحديد قيمتها. ونظراً لصلاتها التاريخية بإسبانيا والشهرة العالمية لبيكاسو، فمن الواضح أن "غرنيكا" لن تُباع على الإطلاق.
خلال العقود الأخيرة، ثمة العديد من اللوحات الأخرى لبيكاسو بيعت بما يزيد عن 100 مليون دولار؛ في ضوء ذلك، يمكن تقدير قيمة "غرنيكا" بمبلغٍ قد يتجاوز 200 مليون دولار إذا تقرّر طرحها للبيع بالمزاد، نظراً لضخامتها مقارنةً بلوحات بيكاسو الأخرى، بالإضافة إلى أهميتها التاريخية والثقافية.
أراد بيكاسو أن تكون هذه اللوحة هديةً لشعب إسبانيا، لكن ملكيتها في بعض الأحيان صارت محل خلاف؛ والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى أن الجمهورية الإسبانية أعطت بيكاسو 150 ألف فرنك فرنسي (ما يعادل 135 ألف دولار اليوم) في العام 1937، من أجل مساعدته في دفع تغطية جزء من نفقات الخامات ومستلزمات رسم اللوحة.
ووفق موقع EmptyEasel، لم يتضح بعد ما إذا كان بيكاسو قد اعتبر لوحة غرنيكا ملكاً للحكومة الإسبانية، على الرغم من أن مصادر مقربة من الفنان كانت أكدت عكس ذلك. من جانبها، تقول الحكومة الإسبانية إنها كَلّفت بيكاسو برسمها.
ولكن بغض النظر عن هوية المالك في ذلك الوقت، اختار بيكاسو بنفسه عرض "غرنيكا" في معرض باريس الدولي عام 1937، بالإضافة إلى العديد من المعارض حول العالم، قبل إيداعها بمتحف الفن الحديث في نيويورك من العام 1939 وحتى العام 1981 بناءً على طلب بيكاسو بأن يحتفظ المتحف باللوحة حتى استقرار الديمقراطية في إسبانيا.
بناءً على ذلك، عادت لوحة غرنيكا إلى إسبانيا في العام 1981، من خلال اتفاقية مع وَرَثة بيكاسو ومتحف الفن الحديث والحكومة الإسبانية.
اليوم.. إذا كنت في إسبانيا، يمكنك رؤية "غرنيكا" في متحف الملكة صوفيا المركزي الوطني للفنون في مدريد، حيث تشغل اللوحة مساحة جدارٍ كاملٍ في الغرفة رقم 206.06.
يمكنك دخول المتحف بعد دفع 10 يوروهات، وهو مفتوح طوال أيام الأسبوع (ما عدا أيام الثلاثاء) من الساعة العاشرة صباحاً وحتى التاسعة مساءً. ويقدّم المتحف أيضاً ساعاتٍ مُخفّضة في أيام الأحد والعطلات.
تستطيع أيضاً الدخول مجاناً إلى متحف الملكة صوفيا من الساعة 7 مساءً حتى الساعة 9 مساءً طوال أيام الأسبوع (ما عدا أيام الثلاثاء)، ومن الساعة 1:30 ظهراً إلى 7 مساءً في أيام الأحد.