في مقابلةٍ لها مع مجلة Life الأمريكية، أعلنت مارلين مونرو أنها تضع بضع قطرات منه قبل الخلود إلى النوم؛ نتحدث عن عطر "شانيل رقم 5″، الذي ابتكرته مصممة الأزياء الفرنسية الرائدة غابرييل شانيل، المعروفة باسم كوكو شانيل، بعد دخولها عالم العطور بعد الموضة.
في عام 2021، أعلنت دار شانيل اختيار الممثلة الفرنسية ماريون كوتيار وجهاً جديداً لحملة "شانيل رقم 5" الإعلانية؛ نظراً لأن ماريون تجسد روح المرأة الجريئة العصرية التي ابتَكَرت شانيل هذا العطر من أجلها.
وبهذا تكون ماريون كوتيار قد انضمّت إلى قائمة المشاهير التاريخيين، نجمات الحملات الإعلانية لأحد أشهر العطور في العالم، وأكثر عطور شانيل مبيعاً على مدار أكثر من 100 عام.
وتكمن الإجابة عن هذا السؤال: "لماذا يحظى عطر شانيل رقم 5 بهذه الشعبية الكبيرة؟"، في الإحساس الثوري الذي تميّزت به دائماً كوكو شانيل.
شانيل تتحدّى التركيبة التقليدية للعطور النسائية
خلَّدت كوكو شانيل اسمها في التاريخ لتحدّيها معايير الموضة التقليدية السائدة، معتمدةً في تصميماتها على البساطة الراقية.
قدمت البدلات النسائية ذات المظهر الأنثوي العصري، التي كانت مريحة وعملية في الوقت نفسه. صنعت سترة خالدة من قماش التويد، وكتبت شهادة ميلاد الفستان الأسود القصير Little black dress.
باختصار، ومن دون أي مبالغة، يدين عالم الأزياء والموضة لريادة شانيل في طريقة ارتداء النساء لأزيائهن اليوم.
لم تتبع كوكو أي قواعد سوى قواعدها، ولم تدع الهوية الجندرية تقيّد طريقة رؤيتها للعالم. عاشت في عصر تنميطٍ، حتى في العطر الذي تضعه المرأة. فقد كانت التقاليد السائدة تقدّس العطر المستخلص من زهرة واحدة، باعتباره رمزاً للمرأة الوقورة، وكلّ مزيجٍ آخر يضع المرأة فوراً بمرتبةٍ متدنية.
ولأنها كانت شخصية محبّة للمغامرة، ومولعة برؤيتها الخاصة لعالم الأنوثة، تمسّكت بفكرة ابتكار عطرها الخاص، وقرّرت الدمج بين الوقار والإثارة، وهي تجربة رائدة في صناعة العطور لم يسبق لها مثيل.
لجأت كوكو، من أجل تنفيذ رؤيتها، إلى صانع عطور على نفس القدر من التميز والابتكار، وهو إرنست بو. كان بو صانع عطور سابقاً للعائلة المالكة الروسية. ووفقاً لرؤية كوكو ابتكر بو 10 عطور، من بينها "العطر رقم 5" الذي اختارته شانيل لنفسها، والذي سيتضح لاحقاً أنه احتوى على مُكوّنٍ وُضع في التركيبة عن طريق الخطأ.
خطأ أسفر عن روعة كوكو شانيل
كان عطر شانيل رقم 5 عبارة عن الروائح التي كانت شانيل تبحث عنها؛ مزيج فاخر من رائحة الفانيليا الحلوة، وخشب الصندل، والمسك، إضافة إلى رائحة نظيفة مُنعشة أعادت كوكو إلى أيام طفولتها داخل الدير، حيث تولّى الرهبان تربيتها.
والفضل في ذلك يعود إلى بو، الذي أضاف القليل من الألدهيد، هذه الجرعة غير المتوقعة في تركيبة العطر أعادت تذكير كوكو برائحة المنظفات التي كانت الراهبات تستخدمها في الدير.
فرأت أن التداخل بين الياسمين وخشب الصندل والورد والفانيليا، مع القليل من رائحة نظافة الصابون، يعبّر عن مسار رحلتها من حياة الفقر المُدقع إلى الثراء، وهكذا انطلق عطر "شانيل رقم 5".
عشقت كوكو رائحة عطرها، وأثبتت اختباراتها السرية له نجاحاً مستداماً لافتاً. على سبيل المثال رشّت كوكو العطر في إحدى المرّات حول طاولتها في حفل عشاء، لتجد أنَّ العديد من النساء اللاتي مررن بجانب الطاولة توقّفن للاستفسار عن الرائحة.
كان يتعيَّن اختيار تصميم زجاجة لتعبئة عطر "شانيل رقم 5" داخلها، استعداداً لطرحه في الأسواق. ويُقال إن كوكو استوحت تصميم الزجاجة من زجاجات الويسكي، وقوارير مستلزمات النظافة الشخصية التي استخدمها حبيبها.
في الحالتين وُلد تصميم الزجاجة التي نعرفها اليوم للعطر في العام 1924.
شهرة عطر "شانيل رقم 5″ في أمريكا وليس فرنسا
لم تعلن كوكو عن عطرها إلا بعد مرور ما يقارب الـ10 سنوات على صنعه، مفضّلةً السماح للأحاديث الشفهية في المجتمع بالترويج للعطر. فقد حرصت في البداية على تقديم العطر هدية لزبائنها المميزين عند زيارتهم متجرها.
بعد الحرب العالمية الثانية، رأت كوكو شانيل أنها بحاجة إلى إعادة بناء صورة علامتها التجارية بعد أن ساءت سُمعتها، على خلفية اتهامات بارتباطها بالنازية، لم يكن أمامها أفضل من إطلاق عطرها المميز.
وإحدى أذكى الاستراتيجيات التي استخدمتها كوكو في الترويج له، هي إعطاء الجنود الأمريكيين زجاجات عطر مجانية لكي يأخذوها معهم إلى الولايات المتحدة بعد الحرب. حدث ذلك، وفق موقع Extra History البريطاني، خلال إنزال النورماندي في فرنسا.
كانت الولايات المتحدة، وليست فرنسا، المكان الذي وطّد فيه عطر "شانيل رقم 5" صورته المعاصرة، بفضل قوة تأثير مجلات الموضة الأمريكية مثل Vogue، ولاحقاً هوليوود، إضافة إلى استعانة دار شانيل بجميلات عالم السينما والأزياء في حملات العطر الإعلانية.
ارتفع حجم المبيعات إلى أعلى ما قد نتصوّره، حيث باتت كل امرأة تقريباً ترغب في تجربة العطر، ومنذ فترة الستينيات وصاعداً تشابكت دلالات العطر مع لغة الجمال والقوة والجاذبية، وهي مفردات لا تزال مرتبطة بالأنوثة حتى يومنا هذا.
لكن، لنعد قليلاً إلى الوراء، وتحديداً إلى فترة الحرب العالمية الثانية، حين ارتبط اسم كوكو شانيل بالنازيين.. لماذا؟ وهل صحيح أن إطلاق العطر تأجّل عمداً، بسبب اختفاء كوكو حينها ولجوئها إلى سويسرا؟
بداية علاقة كوكو شانيل بالنازيين
إلى جانب دورها الريادي في عالم الموضة، اتضح أن شانيل لعبت أيضاً دوراً في أحد أحلك فصول القرن العشرين خلال العقد الماضي.
وفي كتابه حول السيرة الذاتية لشانيل، الذي صدر في العام 2011، بعنوان "النوم مع العدو" (Sleeping with the Enemy)، استخدم الكاتب الأمريكي هال هيو فوغان وثائق استخباراتية معاصرة، لرسم المسار الذي قاد شانيل نحو حياتها السريّة كمتعاطفة مع النازيين، ومخبرة لهم خلال الأربعينيات.
بحلول العام 1941، أصبحت شانيل (57 عاماً) "على صلة وثيقة بالشخصيات السياسية بين لندن ومدريد وباريس"، ودخلت في علاقة مع البارون هانز غونتر فون دينكلاج، وهو جاسوس لمنظمة الاستخبارات النازية.
بالنسبة إلى شانيل، غالباً ما كان قضاء الوقت مع حبيبها الجديد يعني احتكاكها مع كبار المسؤولين الآخرين، وسرعان ما دخلت مصمّمة الأزياء في دائرة اجتماعية من النازيين الأقوياء.
في وقتٍ لاحق من ذلك العام، سافر دينكلاج إلى برلين مع زميله البارون لويس دي فوفريلاند للقاء أدولف هتلر. بعد فترة وجيزة علمت المنظمة بقلق كوكو على حالة ابن أخيها المسجون، وأبدت (أي المنظمة) حماسها لعقد صفقة: إطلاق سراح ابن أخيها آندريه مقابل الاتصال ببعض علاقات شانيل القوية مع الحلفاء.
بمساعدة دينكلاج عقدت شانيل صفقة مع المنظمة، وسافرت مع فوفريلاند إلى مدريد، ثم إلى إنجلترا حتى تتمكن من تزويد أصدقائها بالمعلومات الاقتصادية والسياسية.
ووفق هيو، فإن ما حدث خلال تلك الزيارة إلى مدريد غير معروف، ولم يتم العثور على أي وثائق من بعثة شانيل على الإطلاق، لكن الكاتب لاحظ أنه عند عودتها إلى باريس في شتاء العام 1941، علمت أن الألمان قد نفّذوا جانبهم من الصفقة، وعاد آندريه إلى منزله بأمان.
بحلول شتاء عام 1943، مع اكتساب قوات الحلفاء زخماً ضد هتلر، بدأ بعض الباريسيين بشنّ مقاومة عنيفة ضدّ الألمان المحتلّين، فضلاً عن معاقبة المتعاونين المعروفين.
اتصل القادة النازيون بدينكلاج وأخبروه أن الوقت قد حان لمغادرة باريس -وشانيل- خلفهم. لكن كوكو قرّرت، غير راغبة في تركها بمفردها في باريس، وضع خطة جديدة مع حبيبها في محاولةٍ للاستفادة من علاقة صديقتها فيرا بايت مع ونستون تشرشل.
ونقلاً عن المؤرخ الفرنسي هنري غيدل، كتب هيو: "اعتقدت الآنسة شانيل أنها تستطيع مقايضة صداقتها مع ونستون تشرشل، لإقناع النازيين بأنها ودينكلاج لديهما اتصالات للتوسط في اتفاق سلامٍ منفصل مع بريطانيا".
يعتقد غيدل أن دوق وستمنستر، المعروف بكونه مؤيداً لألمانيا إلى جانب العديد من كبار السياسيين البريطانيين وأفراد العائلة المالكة يخشى أن يستولي الاتحاد السوفييتي على أوروبا بأكملها، فشجّع الدوق شانيل للعمل كمبعوث بين برلين ولندن.
اعتقال شانيل وإطلاق سراحها وهروبها إلى سويسرا
ساءت الخطة بشكلٍ فظيع عندما وصلت صديقة شانيل، بايت، إلى مدريد واعترفت للسلطات بدورها كعميلة ألمانية في الساعة الأخيرة، ذاكرةً اسم شانيل كمخبرة في هذه العملية.
بعد وقت قصير من تحرير باريس، في أغسطس/آب 1944، اعتقلت الحكومة الفرنسية كوكو شانيل. ومع ذلك، ورغم الساعات الكثيرة التي أمضتها في الاستجواب، أُطلق سراحها في غياب أدلة دامغة.
تُشير الكثير من المصادر إلى دور تشرشل في إطلاق سراح كوكو، رغم أنه -وفقاً لهيو- لا يوجد دليل واضح على ذلك. وفي هذا الإطار كتب هيو: "تقول إحدى النظريات أن شانيل كانت تعلم أن تشرشل قد انتهك قانون التجارة مع العدو الخاص به، من خلال الدفع سراً للألمان لحماية ممتلكات دوق وندسور في باريس".
[وذلك في إشارةٍ إلى كوكو.. فدوق وندسور هو الملك السابق إدوارد الثامن، الذي كان أحد عشاق كوكو شانيل عندما كان لا يزال أمير ويلز].
لم يتم الإعلان عن استجواب شانيل من قبل الحكومة الفرنسية، ويعود ذلك إلى عدم الرغبة في إعادة فتح قضية معقدة وغير مؤكدة. وفي لقاءٍ معه مع NewYorker، يقول هيو، وهو أيضاً مراسل أجنبي ومحارب قديم في الحرب العالمية الثانية:
"بحلول العام 1953، كان القليل من المسؤولين مهتمين بربط النقاط التي أدت إلى خيانة شانيل لفرنسا. تم إخفاء تفاصيل تعاونها مع النازيين لسنوات في الأرشيف الفرنسي والألماني والإيطالي والسوفييتي والأمريكي".في العام 1944، هربت شانيل إلى سويسرا لتفادي تهم جنائية بسبب تعاونها كجاسوس نازي، وبقيت هناك لسنوات. وفي العام 1953، عادت إلى فرنسا وعملت بجهدٍ لإعادة إطلاق اسمها في عالم الموضة.