"بيدي لا بيد عمرو".. أحد الأمثال العربية الشهيرة التي تقال عندما يفضل شخص ما أن يكون هلاكه بيده لا بيد أعدائه، ولهذا المثل حكاية شهيرة بطلتها الزباء، ملكة تدمر، وعمرو بن عدي ملك الحيرة.. تعالوا نروِ لكم القصة:
بيدي لا بيد عمرو.. انتقام الزباء من قاتل أبيها
الزباء هي نائلة بنت عمرو العمليقي، ملك الجزيرة ومشارق الشام، وقد خلّد التاريخ اسمها بعد مقتل أبيها على يد جذيمة الأبرش، فقد اعتلت العرش من بعده، وأقسمت على أن تأخذ بثأره.
يقال إن مملكة الزباء امتدت من الفرات إلى تدمر، وقيل أيضاً إن جنودها كانوا من العمالقة، وكانوا على استعداد لخوض الحرب من أجلها مع جذيمة، الذي ملك بدوره جيشاً قوياً وكان ملك الحيرة.
قررت الزباء خوض الحرب، لكن أختها التي اشتهرت بحكمتها قالت لها: إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده، والحرب سجال، وأشارت عليها باللجوء إلى الحيلة بدل القتال وهذا ما كان.
فكتبت الزباء إلى جذيمة، ملك الحيرة، تدعوه للزواج منها، وقالت له: "إن ملك النساء قبح في السماع، وضعف في السلطان، وإنني لم أجد لملكي ونفسي كفؤاً غيرك".
دغدغت تلك الرسالة غرور جذيمة وزهوه بنفسه، وانطلت عليه الحيلة، وصدق أنه بمكانة عالية، لدرجة أن الزباء تطلب الزواج منه رغم أنه قاتل أبيها.
حيلة الزباء انطلت على جذيمة
مع ذلك، استشار جذيمة قومه في الأمر، فرأى معظمهم أن يسير إليها ويتزوجها ويستولي على ملكها، وفقاً لما ورد في كتاب "الدر المنثور في طبقات ربات الخدور".
لكن أحد مستشاري الملك، وهو قصير بن سعد كان له رأي آخر، فقد اشتمّ رائحة الحيلة، وهو الحكيم بين قومه، والناصح الأمين لجذيمة، فقال له: "رأي فاتر وعدو حاضر"، وأضاف ناصحاً للملك: "اكتب إليها إن كانت صادقة فلتُقبل إليك، وإلا فلا تُمكّنها من نفسك، وقد وترتها وقتلتَ أباها".
لكن جذيمة لم يُنصت لقصير، واستدعى ابن أخته عمرو بن عدي واستشاره، فشجعه عمرو على المسير، وقال له: "إن قومي مع الزباء فإذا رأوك صاروا معك".
وهنا حسم جذيمة أمره ومضى إلى تدمر للقاء الزباء، واستخلف وراءه على ملكه ابن أخته الشاب عمرو بن عدي (الذي أصبح جد النعمان بن منذر، أشهر ملوك المناذرة).
وصل جذيمة إلى تدمر ومعه نخبة من أصحابه، بينهم قصير نفسه، فاستقبله جنود الزباء بالهدايا والترحيب، فقال الملك لقصير: "كيف ترى؟" فأصر قصير على رأيه قائلاً: "خطر يسير وخطب كبير".
ميتة الملك الشنيعة
بقي قصير متوجساً، حتى بعد أن رأى ترحيب جنود الزباء وخاف غدرهم، فركب "العصا"، وهي فرس الملك جذيمة، التي لا تجاريها خيل في سرعتها، وقال للملك إن أحسست من القوم غدراً فوافني على "العصا".
لكن جنود الزباء حالوا بين قصير والملك، وأدخلوا جذيمة إلى قصر الزباء، التي استقبلته بالترحاب، وسقته الكثير من الخمر، وبعد أن خارت قواه من كثرة الشراب أمرت خدمها فأحضروا طستاً من ذهب، ثم أمرت بقطع عروق ذراع الملك كي يصفى دمه على الطست الذهبي، فقد جرت العادة ألا يُقتل الملوك بقطع الرقبة تكريماً لملكهم.
ولما ضعفت يدا الملك سقطتا فقطر من دمه خارج الطست، فقالت الزباء: "لا تضيّعوا دم الملك".
لكنه قال: "دعوا دماً ضيّعه أهله"، ثم مات من فوره.
لأمر ما جدع قصير أنفه
ولمَّا سمع قصير الخبر فرّ هارباً بـ"العصا"، إلى أن وصل إلى الحيرة، ولاقى عمرو بن عدي وأخبره أن خاله وجميع جنده قد قُتلوا في تدمر، وحثّه على الأخذ بالثأر لهم.
لم يكن باستطاعة عمرو بن عدي التوجه بجيشه إلى تدمر، فقد أدرك أن معركته مع الزباء ستكون خاسرة؛ لذلك نصحه قصير باللجوء إلى الحيلة أيضاً.
فقال قصير لابن عدي: "اجدع أنفي واضرب ظهري ودعني وإياها -يقصد الزباء-"، فقال عمرو: ما أنا بفاعل، فجدع قصير أنفه بيده وتوجه إلى تدمر.
ولما وصل قصير بأنفه المجدوع ودخل على الزباء قالت في نفسها: لأمر ما جدع قصير أنفه (وهذه حكاية مثل عربي آخر، فبعد هذه الحادثة راح العرب يصفون كل أمر مريب ومثير للشك بقولهم: لأمر ما جدع قصير أنفه).
لكنها مع ذلك قررت أن تسمع قصة الرجل، الذي قال لها إن عمرو بن عدي زعم أن قصيراً هو من غرّر بخاله، ونصحه بالذهاب إليها ليلقى هذا المصير، وأنه فوق هذا نجا بنفسه وفر هارباً تاركاً الملك للموت، وكعقاب له على فعلته قال قصير إن ابن عدي جدع له أنفه.
صدّقت الزباء قصة قصير، خاصة أنه كان من الصعب تجنّب الإعجاب بحكمته ونباهته وحسن حديثه، فأمضى في قصرها وقتاً من الزمن، واستعانت به الزباء في شؤون ملكها، ولما أدرك أنها باتت تثق به قال لها: إن لي في العراق أموالاً كثيرة، ولي بها عطور ومتاع وطرائف، فأذني لي أن أذهب هناك وآتي بها إليك، فأذنت له وجهزته بالدواب والأموال.
فذهب قصير متخفياً إلى عمرو بن عدي، وطلب منه تجهيزه بألوان الأقمشة والعطور، ففعل ذلك، وحمل قصير هداياه بصناديق ضخمة إلى الزباء، فأعجبها ما جاء به قصير، الذي استأذن منها بعد فترة في الخروج إلى العراق مرة أخرى، فأذنت له، وعاد إليها بصناديق مليئة بالمتاع والعجائب.
أما في المرة الثالثة فتوجه قصير كعادته إلى العراق، لكنه عاد هذه المرة بصناديق ضخمة اختبأ في كل منها اثنان من رجال عمرو بن عدي، وكان ابن عدي كذلك في أحد هذه الصناديق.
فأقبلت الزباء تستقبل قصيراً وبضاعته الكثيرة، وكان الوقت ليلاً، وليس معها من حرسها إلا القليل.
بيدي لا بيد عمرو
كانت الزباء بعد حادثة مقتل جذيمة قد سألت كاهنة عن مصيرها، فقالت لها: أرى هلاكك بسبب غلام مهين، غير أمين، وهو عمرو بن عدي، ولن تموتي بيده، ولكن حتفك بيدك.
ومن حينها بعثت الزباء رساماً ماهراً إلى الحيرة ليدخل قصر عمرو بن عدي ويعرض عليه مهاراته في الرسم، ثم يقوم خفية برسم عمرو بن عدي وهو واقف وجالس ومن كل الاتجاهات، حتى تعرفه الزباء إذا رأته.
كما قامت بحفر خندق من قصرها إلى وسط المدينة لتهرب إن حل طارئ، واحتفظت على الدوام بخاتم في يدها يحوي سماً، لتتجرعه إذا تمكن منها أعداؤها.
لكن تلك الإجراءات لم تنفعها بعدما أعطت ثقتها لقصير، فما إن راحت لتستقبله حتى صرخ برجاله فخرجوا من الصناديق، وكان عمرو بن عدي في مقدمتهم، وعندما رأته عرفته من الرسوم التي جاء بها الرسام، فقالت مقولتها الشهيرة قبل أن تتجرع السم: "بيدي لا بيد عمرو"، وصارت مثلاً.