كانت الإمبراطورية الفارسية واحدة من أقوى وأكبر إمبراطوريات العالم القديم، فقد استطاع الفرس أن يبسطوا سيطرتهم على مناطق واسعة من العالم، امتدت من منطقة شرق المتوسط وحتى الحدود الغربية مع الهند، وأسسوا إمبراطورية ضخمة تضمنت مجموعةً متنوعة من الثقافات والجماعات العرقية، وعُرفت كذلك باسم الإمبراطورية الأخمينية، التي تعتبر أول إمبراطورية عالمية؛ كون أراضيها تقع في إفريقيا وآسيا وأوروبا.
ولم تسقط الإمبراطورية التي بناها قدماء الفرس إلى أن احتلها الإسكندر أثناء غزوه آسيا في القرن الرابع قبل الميلاد.
من هم الفرس القدماء؟
كان الفرس القدماء عبارةً عن شعبٍ من الهنود-الإيرانيين الذين هاجروا إلى الهضبة الإيرانية أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد، قادمين على الأرجح من بلاد القوقاز أو آسيا الوسطى.
وكانوا في الأصل شعباً من الرعاة الذين جابوا السهوب بمواشيهم، وارتبطوا عرقياً بالباختريين، والميديين، والبارثيين.
وفي القرن الخامس قبل الميلاد، وصفهم المؤرخ اليوناني هيرودوت بأنهم ينقسمون إلى عدة قبائل مختلفة، أكثرها قوةً هي قبيلة باسارجادي، التي كانت الأسرة الأخمينية جزءاً منها.
ويقول رئيس الدراسات والثقافة الفارسية في جامعة كاليفورنيا، توراج دريعي، لموقع Live Science الأمريكي: "سمعنا عن الفرس للمرة الأولى من المصادر الآشورية"، وهي جماعةٌ عرقية قديمة من السكان الأصليين للشرق الأوسط.
حيث سجل الملك الآشوري شلمنصر الثالث، في القرن التاسع قبل الميلاد، مصادفته لشعبٍ يستقر في المنطقة التي تمثل جنوب غرب إيران الآن، ويطلق عليهم اسم بارسوا.
وتظهر هذه الإشارة المكتوبة بالمسمارية على "مسلته السوداء"، التي عُثِرَ عليها عام 1846 وتُخلّد مآثر شلمنصر الثالث وحملاته العسكرية. ويُشير العلماء إلى أن مسلة الحجر الجيري قد جرى نقشها على الأرجح في عام 825 قبل الميلاد، بحسب المتحف البريطاني.
صعود إمبراطورية فارس
بحلول الألفية الأولى قبل الميلاد، كان الفرس قد ثبتوا أقدامهم جيداً في جنوب غرب إيران، وأسسوا عاصمتهم في أنشان، التي تعتبر من مدن العيلاميين القديمة -وهي جماعةٌ عرقية قديمة سكنت الهضبة الإيرانية.
وقد خضع الفرس لحكم ملوكٍ يزعمون أنهم منحدرون من ملكٍ شبه أسطوري يُدعى أخمينيس.
حيث سيطر الآشوريون، وبعدهم الميديون، ثم الشعب الهندي الإيراني الذي استقر جنوب غرب إيران على الفرس لعدة قرون، وذلك بحسب موسوعة World History Encyclopedia.
ولكن في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وصل حاكمٌ طموح ومقتدر يُدعى قورش إلى السلطة، حيث انتفض قورش، الذي عُرف لاحقاً بقورش الكبير، ضد الميديين وغزاهم.
ثم انطلق في حملة غزوٍ لضم ممالك ليديا، وعيلام، وبابل إلى إمبراطوريته المزدهرة. وبحلول وقت وفاته عام 530 قبل الميلاد، كانت إمبراطوريته الأخمينية تمتد من بلاد البلقان في أوروبا وحتى الهند، وكانت بحسب الموقع الأمريكي واحدةً من أكبر إمبراطوريات العالم القديم جغرافياً وسكانياً.
بينما يُعتبر هيرودوت من المصادر الرئيسية للمعلومات عن حياة قورش، إذ صوّر هيرودوت في المجلد الأول من كتاب "تاريخ هيرودوتس" الحياة المبكرة للملك الفارسي، ليروي بأسلوبٍ أسطوري كيف دفعت سلسلة أحلام بملك الميديين أستياجيس إلى محاولة قتل الطفل قورش.
لكن قورش نجا من محاولات الاغتيال، وشبّ ليُطيح بالميديين. فيما أشارت موسوعة Britannica إلى أن قصة الطفل قورش المذكورة هي من نسج الخيال على الأرجح، ومحاولة لإظهار أن حكم قورش كان قدراً مكتوباً منذ البداية.
أما المصدر المهم الآخر للمعلومات عن حياة قورش فهو زينوفون، الجندي والكاتب اليوناني الذي عاش بين عامي 430 و350 قبل الميلاد، إذ ألّف كتاباً عن الملك الفارسي بعنوان "موسوعة قورش Cyropaedia"، ووصفه فيها بأنه "أوسم شخص، والأكرم قلباً، والأكثر تفانياً للعلم، والأكثر طموحاً، لدرجة أنه تحمّل كافة أشكال العمل وواجه مختلف أشكال المخاطر من أجل الثناء".
وعلاوةً على كونه جنرالاً عسكرياً ناجحاً، أثبت قورش أيضاً كونه مديراً ناجحاً، كما عُرِف بطبيعته الكريمة والمحبة للخير بحسب دريعي.
واشتهر كذلك بأنه كان رحيماً بالشعوب التي يغزوها، حيث سمح لهم بأن يحتفظوا بتقاليدهم، وأديانهم، وحقوقهم بدلاً من إجبارهم على تبنّي ثقافته مثل غالبية الحكام القدماء الآخرين.
وفي سفر أشعياء وعزرا العبريين مثلاً، كان قورش يُوصف بإجلالٍ على اعتباره المحرر المسؤول عن تحرير اليهود من براثن البابليين، ومساعدتهم على إعادة بناء الهيكل الثاني في القدس.
وقد أدرك قورش أن النجاح في حكم إمبراطوريةٍ مترامية الأطراف يحتاج لحاكمٍ يمارس قدراً معيناً من الإحسان والتفهم بحسب دريعي. إذ تعلم الفرس من إمبراطوريات الآشوريين والبابليين أن استراتيجيات الترهيب والتخويف لا تنجح على المدى الطويل، فقرر الفرس بدلاً من ذلك أن يتبعوا مفهوماً يُدعى "فيسبادانا"، وهو مصطلحٌ يعني "الشعوب المتعددة".
ويُعتبر مفهوم الفيسبادانا بمثابة اعترافٍ بأنّ الإمبراطورية تتكون من عدة ثقافات مختلفة، وأنّ هذه الثقافات المختلفة تُفيد الإمبراطورية في الواقع لأنها تؤدي لتنوع المهارات والقدرات التي تتمتع بها شعوبها.
ويُذكر أن برسبوليس، العاصمة القديمة للإمبراطورية الأخمينية، تقع بالقرب من مدينة شيراز المعاصرة في إيران. وبعض أجزاء المدينة القديمة محميةٌ اليوم باعتبارها أحد مواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو.
حيث توجد العديد من الجداريات في برسبوليس، التي تعرض الملك في صورة المُوحّد. بينما يصطف حوله رعاياه، من ممثلي مختلف الشعوب والثقافات، في أوضاع الشاكرين وليس الأسرى أو الضحايا. وأوضح دريعي: "يمسك رعاياه من الميديين، والفرس، وغيرهم بأيدي بعضهم البعض. وهذا خير دليلٍ على كونها إمبراطوريةً متعددة الثقافات واللغات".
أما قمبيز الثاني، ابن قورش، فقد ضمّ مصر القديمة إلى الإمبراطورية، ولكن تبيّن أنه لم يكن حاكماً مقتدراً مثل والده، وبعد وفاته، التي نُسِبَت إلى حادثٍ أثناء حملته في مصر، تولى شقيقه الأصغر بارديا الحكم، ومع ذلك كان عصره قصيراً، حيث اغتيل بعد وقتٍ قصير من تنصيبه في عام 522 قبل الميلاد على يد نبيلٍ فارسي يُدعى دارا، الذي صعد إلى العرش من بعده.
وبلغت الإمبراطورية الأخمينية أزهى عصورها في عهد دارا، إذ عزز الفتوحات المصرية، وأضاف إلى إمبراطوريته أجزاءً من الهند وتراقيا (بلاد البلقان). كما أصلح القانون الجنائي في الإمبراطورية، ودشّن العديد من مشروعات البناء الهائلة، وأنشأ الخدمات البريدية، ووحّد نظام الأوزان والقياسات والعملات الفارسية.
الحروب الفارسية اليونانية
اندلعت في عهد دارا أيضاً الحروب الفارسية اليونانية الشهيرة، إذ كانت عبارةً عن سلسلةٍ من الحروب بين مختلف دول المدن اليونانية، وأبرزها أثينا وأسبارطة، وبين الإمبراطورية الفارسية.
وبدأت المرحلة الأولى حين انتفضت بعض المدن اليونانية الأناضولية، مثل ميليتوس، ضد حكم الفرس. وقد دعمت مدن أثينا وإريتريا هذه الانتفاضة، لكنها فشلت في نهاية المطاف. وقرر دارا الانتقام بإرسال جيشٍ لعقاب تلك المدن اليونانية، حيث أحرقت قوات دارا مدينة إريتريا، لكنها هُزِمَت عام 490 قبل الميلاد في معركة ماراثون، على يد جنود الهوبليت اليونانيين (المشاة المدججين بالسلاح)، الذين تمكنوا من تطويق قوات الفرس رغم أنها كانت تفوقهم عدداً.
في حين قرر خشايارشا، نجل دارا، أن يواصل حرب والده، فحشد أسطول حربٍ ضخماً في عام 480 قبل الميلاد، وغزا اليونان، فيما يُعرف باسم الغزو الفارسي الثاني لليونان، لكن هذه الغزوة انتهت إلى هزيمةٍ للفرس كسابقتها. ودُمِّر أسطول دارا على يد الأثينيين في معركة سلاميس، قبل أن تُهزم قواته البرية في معركة بلاتيا على يد جيش تحالف المدن اليونانية بقيادة أسبرطة.
نهاية الإمبراطورية الفارسية
في عام 334 قبل الميلاد، عبر الحاكم المقدوني الشاب الإسكندر الأكبر هيليسبونت (أو مضيق الدردنيل في تركيا المعاصرة) ليغزو إمبراطورية فارس. وفي سلسلةٍ من المعارك رائعة التخطيط والتنفيذ تمكن الملك الشاب من هزيمة جيوش ملك الفرس، دارا الثالث.
ومضى الإسكندر ليحرق برسبوليس، لكن موقفه تغير فجأةً ليمنح الملك شاهد قبرٍ رائعاً ويتزوج ابنته ستاتيرا الثانية، بحسب موقع Ancient Origins.
ومن هناك، تبنّى الإسكندر الكثير من عادات وتقاليد الفرس، مثل ارتداء الملابس الفارسية. ولا شك أن هذا الموقف جعله على خلافٍ مع العديد من رفاقه اليونانيين والمقدونيين. كما أبقى على نظام الإدارة الفارسي، وأمر العديد من الضباط والجنرالات المقدونيين بالزواج من نساءٍ فارسيات من أجل توحيد الثقافتين.
وحين مات الإسكندر عام 323 قبل الميلاد، تقسمت إمبراطوريته بين جنرالاته، وأصبحت غالبية أرجاء الإمبراطورية الفارسية سابقاً خاضعةً لنفوذ المملكتين البطلمية والسلوقية، لكن حكم الفرس الأصليين عاد في النهاية إلى البارثيين خلال القرن الثاني قبل الميلاد.