من همدان في فارس، وربما من قبيلة نفزة الأمازيغية أو من شبه الجزيرة العربية، شق طارق بن زياد طريقه ليصل إلى المجد، قاطعاً المسافات من المغرب الأقصى إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، عابراً المضيق بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وممهداً الطريق أمام المسلمين ليحكموا الأندلس قرابة 8 قرون.
لم تكن نهاية هذا القائد العسكري تليق بمقامه، فقد مات فقيراً معدماً، حتى قيل إنه شوهد يتسول أمام أحد مساجد دمشق، لكنه عاش حياةً حافلةً بالمعارك والفتوحات التي خلدت اسمه حتى يومنا هذا.
طارق بن زياد.. أمازيغي أم عربي أم فارسي؟
إلى يومنا هذا لا يوجد اتفاق على أصول طارق بن زياد، خاصة أن مؤرخين مثل ابن عبد الحكم وابن الأثير والطبري وابن خلدون لم يذكروا تفاصيل كافية، تشير إلى أصول فاتح الأندلس، وبالنظر إلى المراجع التاريخية الحديثة، نجد أن دائرة المعارف الإسلامية وموسوعة كامبريدج الإسلامية لم تجزم أيضاً مسألة أصول طارق بن زياد.
مع ذلك طرح المؤرخون الذين وثقوا فتح الأندلس ثلاثة احتمالات حول أصول هذا القائد العسكري:
فمنهم من رجح أصوله الفارسية، فقد ورد في كتاب "أخبار مجموعة في فتح الأندلس"، أن طارق بن زياد هو فارسي من همدان. مع العلم أن هذا الكتاب هو مخطوطة مجهولة المصدر كُتبت في القرن الحادي عشر، وهي محفوظة اليوم في مكتبة باريس.
ورجح بعض المؤرخين أن طارق أمازيغي الأصل، وكان الإدريسي أول من قال بهذا الرأي في القرن الثاني عشر، ووافقه الرأي كل من ابن خلكان وابن عذاري، الذي قال إنه مولى بربري من قبيلة نفزة التي استقرت شمالي المغرب الأقصى.
ويتفق مع هذا الرأي الكاتب والمؤرخ الإسباني رافايل ديل مورينا وجوزف دياباخو.
أما الاحتمال الثالث، فيشير إلى أن طارق بن زياد هو مولى عربي معتق، وينتمي إلى قبائل الصدف في حضرموت، وهو احتمال رجحه الزركلي والمقري التلمساني والمؤرخ الإيطالي باولو جيوفيو، كذلك رجحت موسوعة كامبريدج الإسلاميَّة هذا الرأي.
مولى ثم رفيق ثم ند.. علاقة طارق بموسى بن نصير
وفي حين يختلف المؤرخون على أصل طارق بن زياد فإنهم يتفقون على أنه كان مولى لموسى بن نصير (وهو والي إفريقية في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك).
فقد كان موسى بن نصير قد خرج غازياً إلى طنجة، واستولى على البلاد التي كان البربر يستوطنونها، ولكي يروض القبائل المهزومة، اختار أن يولي عليهم أحداً منهم كي يكون مجده مجدهم، ووقع الاختيار على طارق بن زياد، ليتولى طنجة لقاء ما أبداه من شجاعة في قتاله إلى جانب ابن نصير، فقد تحول من مولاه إلى رفيقه في الفتوحات.
لكن سرعان ما ظهرت الندية بين الرجلين، الذين اختلف المؤرخون حول طبيعة العلاقة بينهما. فبعضهم رجحوا أن سطوع نجم طارق بن زياد ولّد مشاعر الحقد والحسد لدى موسى بن نصير.
وقد ذكر ابن عبد الحكم أن موسى غضب على طارق، وسجنه وهمّ بقتله لولا شفاعة مغيث الرومي، مولى الوليد بن عبد الملك. كما ذكر صاحب أخبار مجموعة في فتح الأندلس، أنه عندما التقى طارق بموسى في الأندلس، نزل عن جواده احتراماً له، بينما وضع موسى السوط على رأسه، والقصة كلها بدأت عندما فتح ابن زياد الأندلس:
فتح الأندلس.. هكذا خلّد التاريخ اسم طارق بن زياد
كان فتح شبه الجزيرة الأيبيرية (التي عرفت بالأندلس لاحقاً) من أبرز إنجازات طارق بن زياد كقائد عسكري.
البداية كانت من مدينة سبتة، فبعد أن سيطر موسى بن نصير على المغرب الأقصى بقيت سبتة فقط خارج حكم المسلمين، وكان يحكمها آنذاك حاكم قوطي يدعى يوليان.
وكان من عادة أشراف القوط إرسال أولادهم إلى بلاط الملك كي يتعلموا هناك، لكن ملك القوط ويدعى لذريق اغتصب ابنة يوليان، التي كانت تعيش في بلاطه، فقرر الأخير الانتقام من الملك بمساعدة المسلمين على غزو أيبيريا.
وهكذا راسل يوليان موسى بن نصير وطارق بن زياد، ودعاهما لعبور المضيق (الذي عرف باسم مضيق جبل طارق) لغزو القوط.
كان لدى ابن زياد حلم باجتياز المياه إلى الضفة المقابلة، ونشر الإسلام في شبه الجزيرة الأيبيرية، ولم يمانع ابن نصير الفكرة، فراسل الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يُبلغه عرض يوليان ويستأذنه في العبور، فأمره باختبار الدفاعات الإسبانية بغارة صغيرة، خوفاً من أن يغرر بالمسلمين هناك، وعندما تأكد المسلمون من ضعف دفاعات العدو أذن الخليفة لطارق بن زياد بالعبور.
كان ذلك عام 711، عندما توجه طارق نحو الأندلس على رأس جيش مكون من قرابة 7 آلاف رجل معظمهم من البربر، فعبروا المضيق الفاصل بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، ونزلوا في رأس شبه الجزيرة الأيبيرية في الموقع الذي يعرف اليوم باسم جبل طارق، وتمكنوا من السيطرة على الموقع بعد اصطدامهم مع الحامية القوطية.
بعد ذلك بدأ ابن زياد في التوغل في الأندلس، ونجح في فتح قرطاجنة والجزيرة الخضراء، ثمَّ تقدم باتجاه الغرب حتى بلغ خندة جنوب غربي إسبانيا، وعندما علم لذريق بعبور جيش طارق، جمع جيشاً بلغ نحو 100 ألف رجل وسار لقتالهم، وبالرغم من كثرة عددهم تمكن طارق من الانتصار عليهم نصراً ساحقاً، وتشير بعض المصادر إلى أن طارق قتل لذريق بنفسه.
وبعد الانتصار في هذه المعركة أرسل طارق قوات لفتح قرطبة وإلبيرة وسار بنفسه لفتح طليطلة عاصمة القوط.
وبفتح الأندلس خلد التاريخ اسم طارق بن زياد، فقد مهد الطريق أمام المسلمين ليحكموا تلك المنطقة زهاء 8 قرون لاحقاً.
ما حقيقة مائدة سليمان؟
قصة مائدة سليمان، واحدة من القصص الجدلية غير المتفق عليها، والتي تُروى حول الخلافات ما بين موسى بن نصير وطارق بن زياد.
إذ يحكى أن طارق استولى في إحدى غزواته على مائدة من الذهب مرصعة بالأحجار الكريمة، يقال إنها كانت للنبي سليمان بن داود.
وقبل أن يأخذ طارق المائدة مع باقي الغنائم إلى موسى بن نصير انتزع إحدى أقدامها، فلما رآها موسى على هذه الحال اتهم فيها طارق، لكن الأخير أنكر، فقام موسى باستبدالها بقدم أخرى من الذهب، ودخل بها إلى الخليفة في دمشق مدعياً أنه هو من عثر عليها، إلا أن ابن زياد أظهر القدم الأصلية للخليفة، مثبتاً بذلك أنه هو من عثر على المائدة.
إلا أن هذه القصة لم ترد في كتاب "فتوح البلدان" للبلاذري بهذا الشكل، فقد ورد فقط أن موسى دخل بالمائدة على الخليفة، مع العلم أن هذا الكتاب يعتبر من أقدم الكتب التي وثقت فتح الأندلس.
البحر من ورائكم والعدو من أمامكم
من القصص الجدلية غير المتفق عليها أيضاً، تلك القصة التي تقول إن طارق بن زياد حرق سفن جيشه بعد عبور المضيق، وذلك ليحثهم على الاستبسال في القتال أمام العدو، وخطب فيهم خطبة شهيرة قال فيها: "أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام على مائدة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم".
وهذه الرواية موضع شك، لأنها لم تذكر في الروايات العربية إلا في كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" للإدريسي، الذي عاش بعد الفتح بنحو خمسة قرون.
نهاية لا تليق بقائد عسكري فذ
بعد أن فتح طارق بن زياد وموسى بن نصير أجزاء واسعة من شبه الجزيرة الأيبيرية استدعاهما الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك ليمثلا أمامه في دمشق، وقيل إن خلافاتهما كانت سبب ذلك الاستدعاء، منهياً بذلك دورهما كقادة عسكريين.
وامتثل الرجلان لأمر الخليفة، وتوجها إلى دمشق ومعهما الكثير من الغنائم، فضلاً عن العديد من الأسرى من أفراد الأسرة المالكة والعبيد. ولما وصلا إلى طبريا في فلسطين أرسل إليهما سليمان بن عبد الملك ولي العهد، وطلب منهما التأخر في الوصول إلى دمشق، لأن الخليفة الوليد يصارع المرض على فراش الموت.
وكان سليمان يرغب ألا يدخل الفاتحان دمشق مع الغنائم إلا في عهده، كي ينسب النصر له، لكنهما لم يستمعا لسليمان ودخلا دمشق مع الغنائم قبل موت الوليد.
لكن سليمان لم ينس هذا الموقف، فعزل موسى بن نصير وأولاده عندما تولى الخلافة، وقتل ابنه عبد العزيز بن موسى الذي شارك في فتح الأندلس.
أما طارق بن زياد فلم يتول عملاً عسكرياً أو أي منصب بعد فتحه الأندلس، وأمضى بقية حياته فقيراً معدماً، وقيل إنه شوهد يتسول أمام أحد المساجد، وبقي على هذا الحال حتى توفي في دمشق عام 720.