في العام 1258 قبل الميلاد، انهمك عمال مصر في نقش بنود أول اتفاقية سلام أبرمها الفرعون رمسيس الثاني مع الملك الحثي هاتوسيليش الثالث، بعد قتال شهد هزائم وانتصارات، على مدى نحو عقدين..
أصل الخلاف هو الصراع على المنطقة الشرقية من البحر المتوسط، والتي تكللت بمعركة قادش عام 1274 قبل الميلاد في ما يُعرف اليوم بسوريا، حيث تم تدوين مجرياتها بدقة على جدران المعابد المصرية.
وبعد القتال الضاري بين الجيشين، لم يكتسب أي من الطرفين هيمنة طاغية، وأعلن كلا الجانبين النصر.
فشل رمسيس الثاني في كسر دفاعات قادش ونجح الحثيون في إبقائها تحت سيطرتهم، وانتهت المعركة باحتفاظ كل من الطرفين بنفس مكاسبه السابقة وخسائر فادحة.
عاد رمسيس آفلاً إلى دمشق، ونقش تفاصيل المعركة بالكامل على جدران معبد الرمسيوم وكذلك معبد الأقصر، إضافة إلى معبده بأبو سمبل.
لكن عدم خروج الطرفين منتصرَين أدى إلى اندلاع مزيد من الصراعات بين الدولتين. وبقي احتمال نشوب صراع طويل الأمد بين الدولتين قائماً، متجلياً بمناوشات بينهما.
وبعد 16 عاماً على معركة قادش، رضخ الحاكمان، هاتوسيليش الثالث ورمسيس، لإنهاء النزاع، ووقَّع الطرفان على ما سيصبح أول معاهدة سلام، مدونة بعنوان "المعاهدة الأبدية" أو "المعاهدة الفضية".
لم يكن باستطاعة أي من الجانبين تحمل مزيد من تكاليف وخسائر الحرب الباردة التي دارت بينهما لنحو عقدين، في ظل وجود أعداء آخرين يتربصون على الحدود.
فمصر كانت تتعامل مع توغل رجال القبائل الليبية على حدودها الغربية الطويلة مع ليبيا، عبر بناء سلسلة من الحصون الممتدة من مرسى مطروح إلى راكوتيس.
بينما واجه الحيثيون تهديداً أكبر من الإمبراطورية الآشورية، التي "غزت هانيغالبات، قلب ميتاني، بين نهري دجلة والفرات" وانترعتها من الحثيين، حسب ما نشر موقع World History.
وبينما يشكك مؤرخون في وجود الملكين شخصياً في مكان واحد، رجحت الفرضيات أن توقيع الاتفاقية تم عبر وسطاء.
وسُجلت أول معاهدة سلام بالتاريخ في نسختين، واحدة باللغة الهيروغليفية المصرية، والأخرى باللغة الأكادية باستخدام الكتابة المسمارية. وتم توقيعهما في "عام 21 من عهد رمسيس الثاني" (أو 1258 قبل الميلاد)، واستمرت سارية المفعول حتى انهارت الإمبراطورية الحيثية بعد 80 عاماً.
لحسن الحظ، نجت النسختان كشواهد تاريخية لحضارات التالية، عبر تدوين الفصل الأخير للصراع الطويل، وتقدّم لمحة مفصلة عن كيفية صياغة هذه الأحداث التاريخية بعيون المنتصرين.
وعلى الرغم من تطابق غالبية النص في النسختين، فإن النسخة الحيثية ادَّعت أن المصريين قدموا مناشدة من أجل السلام، بينما ادعت النسخة المصرية العكس.
أعطيت المعاهدة للمصريين على شكل لوحة فضية، ونُقلت إلى مصر على شكل نسخة صغيرة لينحتها الملك على جدران معبد الكرنك.
أما النسخة الحيثية، فعُثر عليها في العاصمة الحيثية حتوسا، الآن في تركيا، وهي محفوظة على ألواح طينية مخبوزة تم اكتشافها في آثار القصر الملكي الحثي.
ويُعرض لوحان منها في متحف الشرق القديم بإسطنبول، بينما يُعرض الثالث في برلين، حسب ما نشر موقع Military History.
بنود أول اتفاقية سلام في التاريخ
وحسبما جاء في ترجمة الوثيقتين، أُبرمت المعاهدة بين رمسيس الثاني وهاتوسيليش الثالث في العام 21 من عهد رمسيس (أي نحو 1258 قبل الميلاد).
تكونت المعاهدة من شقين ودعت إلى السلام بين مصر والحثيين، مع تأكيد أن آلهة كل منهما طالبت بالسلام وشهدت عليه.
واللافت أن بعض بنود المعاهدة ضمت عناصر متشابهة جداً مع عدة معاهدات أكثر حداثة، وتخطت مجرد إعلان وقف الاقتتال.
واحتوت المعاهدة على ميثاق مساعدة متبادلة في حالة تعرُّض إحدى الإمبراطوريات لهجوم من قِبل طرف ثالث، أو في حالة نشوب صراع داخلي.
وتم تخصيص مواد تتعلق بالإعادة القسرية للاجئين وعدم جواز إيذائهم؛ ويعتبر المؤرخون أن هذه الاتفاقية تعد أيضاً أول معاهدة لتسليم الفارين أو المنشقين.
أما خرق المعاهدة فكان ثمنه التهديد والوعيد بالانتقام، ونسف كل ما تم الاتفاق عليه.
واختتم النص بقَسَم أمام "ألف إله ذكور وإناث من أراضي مصر وحاتي، يشهد عليها جبال وأنهار أراضي مصر والسماء والأرض والبحر الكبير والرياح والغيوم.. إذا تم انتهاك المعاهدة في أي وقت، فسوف تلعن الآلهة خائن العهد وستدمر منزله وأرضه وخدمه، أما إذا حافظ على نذوره، فسوف تكافئه الآلهة، التي ستجعله يتمتع بصحة جيدة".
وبين اعتبارها أول اتفاقية سلام أو تحالف، فإن هذه المعاهدة اكتسبت مكانة تاريخية في مجال العلاقات الدولية، وتوجد حالياً نسخة منها معلَّقة في مقر الأمم المتحدة.
ومع ذلك، يرجح بعض المؤرخين أن أول اتفاقية سلام مسجلة، رغم ندرة ذكرها، تمت ما بين اتحاد هاياسا أزي في أرمينيا القديمة نحو عام 1350 قبل الميلاد مع الإمبراطورية الحثية التي ضمت الأناضول وأجزاء من شمال بلاد الشام وما بين النهرين.