أصبح استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي بالحرب جزءاً من حروب العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وباتت التكنولوجيا الحديثة جزءاً أساسياً في الحروب المعاصرة، حيث تستخدم المسيرات (الدرونز أو الطائرات بدون طيار)، بجانب أدوات المراقبة عبر الأقمار الاصطناعية التي باتت متوفرة لغير المسؤولين والعسكريين، وخلال حرب روسيا على أوكرانيا تصاعد تأثير هذه الأدوات ووجودها في ميدان المعركة.
كان من أبرز تلك التقنيات ما أُصطلح على تسميته بالمصادر الاستخباراتية مفتوحة المصدر، أي التي يمكن الوصول إليها من قبل الجمهور، واختصارها OSINT، وهي مجموعة من الأدوات التي تمكِّن المتخصصين من الحصول على معلومات استخباراتية، ومنها أدوات المراقبة عبر الأقمار الصناعية التجارية.
استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في الحرب
الاستخبارات الموازية: من السرية إلى الجماهيرية
يقول كريج نازاريث الباحث في عمليات الاستخبارات والمعلومات في جامعة أريزونا الأمريكية؛ إن إضفاء "الطابع الديمقراطي" على جمع المعلومات الاستخبارية هو ميزة كبرى لمتخصصي المعلومات والاستخبارات، إذ يحصل المحللون الاستخباراتيون- من خلال تلك الأدوات- على المعلومات الاستخباراتية باستخدام الإنترنت بدلاً من الاعتماد على شبكات الاستخبارات السرية أو أجهزة الاستشعار باهظة الثمن.
فمن خلال المعلومات التي تأتي من قبل الشركات التجارية والأفراد (كالصحفيين الاستقصائيين، والمتخصصين في البيانات) يمكن لأي شخص الوصول إلى حقائق المواقف العسكرية، مثل حشد القوات الروسية، والتحركات العسكرية الروسية الحالية، عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو موجز الأخبار.
كنموذج على مثل تلك الشركات؛ نشرت شركة Maxar العديد من الصور المواكبة للأحداث والدقيقة جغرافياً للقوات العسكرية الروسية في الحرب التي تجري رحاها في الوقت الحالي، في حين تقوم العديد من وكالات الأنباء بنقل تلك الصور إلى الجمهور، ومنها ينشر مستخدمو الشبكات الاجتماعية- خاصة تويتر – تلك الصور التي تكشف تحركات القوات الروسية الموجودة داخل أوكرانيا، ويتتبع المحققون على الإنترنت تدفق المعلومات هذا، وهو ما يرفع الغطاء عن سرية التحركات العسكرية الروسية ليس للعدو فقط، بل للعالم كله.
أما عن شركة Maxar، فعلى مدار 60 عاماً عملت الشركة على تصميم وتصنيع مكونات الأقمار الصناعية، والمركبات الفضائية للاتصالات، ورصد واستكشاف الأرض، وتدعم Maxar المهمات التجارية والحكومية بقدرات البنية التحتية الفضائية، إذ تتعاون Maxar مع أكثر من 50 حكومة توفر لها تلك تقنيات. وفي نقلة نوعية من عمل الشركة؛ قدمت الشركة صوراً للتحركات العسكرية الروسية من خلال الأقمار الصناعية التي تمتلكها الشركة.
تساعد إمكانات Maxar العملاء على رسم الخرائط الأرضية واكتشاف المواقع الجغرافية والتنبؤ بالتغيرات المختلفة على امتداد خريطة العالم، عن طريق مجموعة الأقمار الاصطناعية الخاصة بالشركة التي تمتلك القدرة على التصوير بشكل عالي الدقة، وهو ما ظهر بقوة خلال الحرب الروسية على أوكرانيا.
ويُعد الاعتماد على OSINT في الكشف عن المعلومات الاستخباراتية من مظاهر الحرب الحديثة التي يشهدها العالم الآن، إذ خلقت مساراً جديداً وبديلاً منافساً للطرق التقليدية التي تستخدمها أجهزة المخابرات.
المراقبة عبر الأقمار الاصطناعية
قبيل الحرب في أوكرانيا، وفي الوقت الذي كانت تعمل فيه أجهزة الاستخبارات الغربية، وعلى رأسها الأمريكية، على مراقبة الوضع على الحدود الأوكرانية عن كثب؛ لدراسة احتمالية حدوث غزو روسي، ظهر نوع موازٍ لطرق جمع المعلومات الاستخباراتية، الذي قلب الموازين في تلك الساحة المهمة.
فبدلاً من الاعتماد على أقمار التجسس الصناعية التي تبلغ قيمتها ملايين الدولارات بجانب الجواسيس الموجودين على الأرض، احتلت الشبكات الاجتماعية والبيانات الضخمة على الهواتف والأقمار الصناعية منخفضة التكلفة مركز الصدارة في جمع البيانات والمعلومات الاستخباراتية، التي لم تعتمد عليها أجهزة الاستخبارات فقط، بل سمحت للمؤسسات الإخبارية والصحفيين والمحللين بالمساهمة في جمع وتحليل تلك النوعية من المعلومات، التي كانت حكراً على أجهزة المخابرات فيما سبق.
ففي الوقت الذي تعتمد فيه الدول على ميزانيات ضخمة مخصصة لأجهزة استخباراتها، جاءت الأقمار الاصطناعية التجارية الرخيصة والمخصصة للمراقبة بقدر هائل من المعلومات القيِّمة المتاحة للجمهور بمبالغ ضئيلة جداً بالمقارنة بميزانيات أجهزة المخابرات.
غير ذلك، بينما تصل بيانات ومعلومات أجهزة الاستخبارات إلى صُنّاع القرار وحسب، أصبحت OSINT توفر معلوماتها إلى كل الناس، فكل من يملك جهازاً محمولاً أصبح بإمكانه الوصول لمثل تلك المعلومات التي تُنشر على شبكات التواصل ومنصات الأخبار.
الذكاء الاصطناعي يدخل على الخط
ميزة أخرى وكبرى دعمت الطريقة الجديدة في الحصول على المعلومات والتحليلات الاستخباراتية، هي استخدام تقنيات تعلم الآلة لمحاولة فهم التدفق المستمر للبيانات والمعلومات الأولية الغامضة، وربط بعضها ببعض للتوصل إلى مؤشرات يمكن الاعتماد عليها في التحليل الاستخباراتي.
فلقد أثبت تعلم الآلة أنه لا يُقدر بثمن في معالجة المعلومات الاستخباراتية، خاصة في التعامل مع الصور ومقاطع الفيديو، إذ إن أجهزة الكمبيوتر أسرع بكثير في غربلة مجموعات البيانات الكبيرة، وهو ما جعل الاعتماد على أدوات وتقنيات تعلم الآلة أمراً ضرورياً في تحليل المعلومات الاستخباراتية في وقتنا الحالي.
وتعلم الآلة – واختصارها ML – هو أحد فروع الذكاء الاصطناعي التي يمكنها التعلم من البيانات، كما أنها تستطيع تحديد أنماط البيانات المختلفة واتخاذ القرارات بأقل تدخل بشري، حيث يسمح تعلم الآلة لأجهزة الكمبيوتر بتحديد أنماط البيانات والمعلومات التي يوجد بينها رابط ما في كومة البيانات الضخمة، وهو ما يساعد على تحليل تلك البيانات والخروج منها بنتائج واستخلاصات.
وعلى الرغم من أن تقنيات تعلم الآلة واستخدام OSINT لن تمكننا من قراءة أفكار الرؤساء والقادة العسكريين، إلا أنها تساعد المحللين في التنبؤ بإمكانية حدوث غزو روسي لأوكرانيا، وهو ما حصل على سبيل المثال قبل قيام الحرب في أوكرانيا، كما يمكنها متابعة مستجدات الوضع أثناء المعركة للتأكد من تحركات الجيش الروسي، وإلى أي مدى وصلت الأرتال العسكرية على الأرض لحسم المعركة.
كما يمكن استخدام تلك الأدوات في إثبات الوقائع التي ينكرها أي من الجيوش والميليشيات العسكرية، والتي تتمثل في التعدي على المنشآت المدنية وضرب المفاعلات النووية كما حدث أو القيام بجرائم حرب، وأيضاً يمكن استخدام تلك الأدوات في رصد حجم الدمار الذي خلفته الحرب والتي تساعد في إعادة الإعمار، والوصول إلى حجم المساعدات المطلوبة.
وبهذا الشكل لم تُسهِّل تكنولوجيا تعلم الآلة على استخراج المعلومات المفيدة من كميات البيانات الضخمة فقط، بل ساعدت أيضاً محللي البيانات على تجميع الصورة الكبيرة للحرب في أوكرانيا، وهو ما ستشهده باقي الحروب في المستقبل.
المسيرات ساعدت أوكرانيا على الصمود
بينما كان بوتين يبحث عن نصر سريع في بداية الحرب، كانت أوكرانيا مستعدة للمواجهة العسكرية بكل ما أوتيت من قوة. في المقابل عملت القوات الروسية على استهداف الدفاعات الجوية الأوكرانية ليكون لها كامل سماء أوكرانيا دون عائق، بجانب ذلك استهدف الجيش الروسي سلاح الجو الأوكراني والمطارات كي لا يتسنى لأوكرانيا شن غارات جوية تهدد فيها القوات الروسية.
وبالرغم أن المعركة استمرت أكثر مما خططت له روسيا، إلا أنها استطاعت ضرب جزء كبير من الطائرات والمطارات الأوكرانية، في المقابل صمدت أوكرانيا أكثر مما توقع الروس، وذلك بفضل امتلاكها للمسيرات. ففي لقطات مصورة بثها الجيش الأوكراني، ظهرت طائرات بيرقدار التركية التي تمتلكها أوكرانيا ضمن ضمن ترسانتها الجوية وهي تقصف رتلاً عسكرياً روسياً، وهو ما أشعل فيه النيران وأوقف زحف الروس.
بذلك، أصبحت طائرات بيرقدار أحد أهم الأسباب التي ساعدت أوكرانيا على امتلاك سلاح جو صعب الاستهداف، التي استطاعت ضرب الأرتال العسكرية عدة مرات، والمتجهة إلى محاور المعركة المختلفة وعلى رأسها استهداف ومحاولة دخول كييف، وبذلك أثبتت المسيرات عموماً، والمسيرات التركية خصوصاً تأثيرها على مجرى الحرب، خاصة بعد انتصار القوات الأذربيجانية على أرمينيا مستخدمةً نفس السلاح.
ففي حرب "قره باغ"، استطاعت المسيرات التي قدمتها تركيا إلى أذربيجان استهداف الدبابات والمركبات الأرمينية بصواريخ موجهة بالليزر، في حين كانت الدفاعات الجوية الأرمينية، التي قدمتها روسيا، عاجزة عن وقفها، وهو ما أظهر قدرة هذه المسيرات الكبيرة.
ووفقاً لموقع "بيرقدار"، فإن طائرات TB2 – المستخدمة من قبل الجيش الأوكراني- تطير بسرعة 222 كيلومتراً في الساعة كحد أقصى، ويمكنها حمل 4 ذخائر ذكية موجهة بالليزر، وتطير على ارتفاع من 5.5 كيلومتر إلى 7.5 كيلومتر تقريباً، ما يجعل استهدافها من قبل مضادات الدفاع الجوي أمراً صعباً.
كما أن طائرة بيرقدار TB2 قادرة على الطيران لمدة 27 ساعة دون توقف بشكل متواصل، مع القدرة على التحكم فيها من على بعد 300 كيلومتر، ما يجعل من هذه الطائرة أداة جيدة ليس فقط في استهداف المركبات والدبابات وغيرها على الأرض، بل أيضاً للتجسس والعودة إلى قاعدتها بنجاح.
بجانب طائرات بيرقدار TB2، ابتكرت أوكرانيا أيضاً مجموعة من الطائرات بدون طيار صغيرة الحجم، والتي يستطيع بعضها حمل المقذوفات، فطبقاً لشركة الأسلحة الأوكرانية UKRINMAS؛ هناك 23 نوعاً مختلفاً من الطائرات دون طيار التي تعمل عليها أوكرانيا، بالإضافة إلى 13 نوعاً آخر قيد التطوير.
كل ذلك جعل أوكرانيا تتكيف مع ساحة المعركة الجارية في مواجهة ثاني أقوى جيش عالمياً، وهو الأمر الذي قد يفسر سبب قدرة القوات الأوكرانية على الصمود إلى الآن في الوقت الذي دُمرت فيه العديد من الطائرات الأوكرانية.
سرب المسيرات، ومستقبل الحروب
على صعيد آخر، وفي نفس الميدان الآخذ في النمو يوماً بعد يوم، عملت الحرب في أوكرانيا على دفع البنتاغون لتطوير عدد من التقنيات، ينطوي بعضها على "مشروعات طموحة للغاية" كما تصفها مجلة Scientific American العلمية، التي يأتي على رأسها مشروع "أسراب المسيرات ذاتية التوجيه" التي تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتي تشبه روايات الخيال العلمي.
وفي معرض حديثها عن عمليات التطوير التي تقوم بها وزارة الدفاع الأمريكية، قالت هايدي شيو، وكيلة وزارة الدفاع الأمريكية لشؤون الأبحاث والتقنية: إن الجيش الأمريكي يعمل على تطوير منظومات تعتمد على الذكاء الاصطناعي من أجل قيام القطع الحربية بأداء مهامها عبر التوجيه الذاتي، وهو ما يجعلها قادرة على العمل دون تدخُّل بشري إلا في أدنى الحدود، والقدرة على العمل في غياب التوجيه بالأقمار الصناعية، أي أنها ستوجه نفسها بنفسها، وتتخذ هي القرار.
وبتطبيق هذا المفهوم على المسيرات، فإن هذا يعني قيام المسيرات باستهداف الأجسام المعادية (العدو) دون تدخل بشري، وأخذ القرار بناءً على منظومات الذكاء الاصطناعي الموجودة في هذه الطائرات. كما يجعل هذا الأمر المسيرات قادرة على أداء مهمات عديدة أوتوماتيكياً، مثل جمع المعلومات الاستخباراتية، والمراقبة والاستطلاع، وكذلك شن الهجمات على أهداف بعينها كما ذكرنا.