رغم أن وزراء المالية يحملون الوزر الأكبر في تحمل تبعات سياساتهم، خصوصاً إذا ما أرهقت الشعب بالديون والضرائب، إلا أن وزير المالية الفرنسي جاك نيكر والمحاسب الفذ، كان الشرارة التي أطلقت الثورة الفرنسية بعدما أقاله الملك من منصبه، رغم تدهور الاقتصاد وتراكم ديون الدولة. فما قصة هذا المحاسب، ولماذا حمل الفرنسيون تمثاله عندما اقتحموا سجن الباستيل في القرن الثامن عشر وغيَّروا مسار التاريخ؟
تعود القصة إلى رجل يدعى جاك نيكر، ولد في جنيف بسويسرا، حيث كان والده من أصل بروسي، يدرس في الجامعة.
في سن الـ 18 انتقل نيكر إلى باريس للعمل في أحد البنوك، لكنه صعد بسرعة في عالم المال وجمع ثروة كبيرة، نتيجة للمضاربة في شركة الهند الشرقية الفرنسية، التي أصبح مديراً لها، وبسبب أعماله في تجارة الحبوب.
في العام 1765 أسس نيكر بنكه الخاص، وكان تزوج قبلها بعام من سوزان كورشود، ابنة قس سويسري معروف، وسرعان ما كان يتردد على صالونها شخصيات أدبية ودبلوماسية بارزة، حسب ما نشر موقع Biography.
نتيجة علاقات زوجته وتأثيرها عليه، تخلى نيكر عن بنكه لأخيه في عام 1772 وقرر خوض الحياة السياسية. ومن أجل تعزيز سمعته كخبير مالي، كتب عدة أعمال وانتقد فيها سياسات التجارة الحرة في الحبوب، كما قدم خدمات مالية لعدد من الكتاب والنبلاء.
ذاع صيت الرجل حتى تم تعيينه في 29 يونيو/حزيران 1777 من قبل الملك الفرنسي لويس السادس عشر في منصب وزير المالية، وسرعان ما أصبح نيكر رئيس الوزراء الافتراضي.
ولكن لأنه كان أجنبياً وبروتستانتياً، لم يستطِع الحصول على اللقب الرسمي لرئيس الوزراء.
اختلف المؤرخون حول وزارة نيكر الأولى، حيث اتهمه البعض بالحذر المفرط في إدخال الإصلاحات اللازمة.
جاك نيكر وإصلاحات الضرائب غير العادلة
سعى نيكر لتقليل النفقات العامة من خلال تدابير مثل إلغاء الوظائف غير الضرورية والمطالبة بمدفوعات أكبر من الشركات الخاصة التي اشترت الحق في تحصيل الضرائب غير المباشرة.
كما حاول إدخال بعض الإصلاحات في نظام الضرائب غير العادل، عبر رفع الضريبة على الأثرياء والنبلاء، الذين امتعضوا من سياساته.
في تلك الفترة كانت فرنسا تمول المستعمرات الأمريكية في حرب الاستقلال ضد إنجلترا، لكن نيكر لم يرفع الضرائب على فئات الشعب، واعتبر عبقرياً في عالم المال.
نتيجة لقروض نيكر زاد الدين العام بشكل كبير، وتوقع نيكر هدفاً واحداً للثورة الفرنسية من خلال تأسيس عدد من مجالس المقاطعات.
أثارت هذه الجهود معارضة الطبقات الثرية، التي حثت لويس السادس عشر على إقالة وزيره.
ورداً على منتقديه، نشر نيكر العام 1781 تقريره الشهير Compte rendu au roi، وهو تقرير عن الحالة المالية لفرنسا.
ومع ذلك، فقد تم فصله من منصبه في 19 مايو/أيار 1781، ثم توجه نيكر إلى سويسرا.
ولكن سرعان ما أعاده الملك إلى فرنسا، وبدأت وزارة نيكر الثانية في أغسطس/آب 1788، عندما استدعاه لويس السادس عشر إلى منصبه بعد موافقته على دعوة جنرال العقارات للتعامل مع الأزمة المالية في فرنسا.
بناءً على نصيحة نيكر، وافق لويس السادس عشر على مضاعفة عدد المندوبين من الطبقة الثالثة التي تمثل الأكثرية الشعبية، ولكن رفض أخيراً، كما رفض اقتراح نيكر للتوصل إلى حل وسط.
حسابات نيكر العلنية تثير حفيظة النبلاء
بدوره جعل نيكر موازنة الدولة علنية- وهو الأمر غير المعتاد في ظل نظام ملكي – واتبع نظام الدفاتر المزدوجة لتتبع النفقات بعناية، حسب موقع Revolution.
ويصف المؤرخون دفار حسابات نيكر بأنها ليست مجرد محاسبة جيدة، بل شكلت أساساً لحكومة أخلاقية ومزدهرة وقوية.
وبسبب امتعاض طبقة النبلاء من طريقة نيكر التي كانت تعني عدم قدرتهم على إنفاق المال على أهوائهم، أقاله الملك مجدداً من منصبه في 11 يوليو/تموز 1789، لأنه اعتبره متعاطفاً جداً مع الطبقة الثالثة.
شرارة اندلاع الثورة الفرنسية
ساهم رحيل نيكر من منصبه في الاضطرابات التي اندلعت في باريس لتبلغ ذروتها باقتحام سجن الباستيل في 14 يوليو/تموز 1789، الذي شكل رمزاً للسلطة الحاكمة وسط باريس.
حمل المتظاهرون تمثالاً نصفياً لبيكر إلى داخل السجن قبل أن يحرقوه، معلنين بداية الثورة الفرنسية، وتحويله إلى رمز للجمهورية الفرنسية الجديدة.
ومع ذلك، لم يستطِع نيكر، الذي لم يثق به النبلاء ونواب الهيئة التشريعية، التعامل مع الأزمة المالية والمطالبات بإجراء إصلاحات جذرية.
في سبتمبر/أيلول 1790 تقاعد من المنصب العام للمرة الأخيرة وعاد إلى سويسرا، وهناك عاش مع ابنته الشهيرة مدام جيرمين دي ستال وكتب عدداً من الأعمال التي تدافع عن سياساته قبل أن يتوفى العام 1804.