عندما يتأمل الناس في النصوص المصرية القديمة، فأول ما يخطر غالباً أن هذه الرموز غير المفهومة هي اللغة الهيروغليفية الشهيرة، ذلك النص المصور الذي أبهر البشرية لآلاف السنين، لكن حقيقة الأمر أن هذه البرديات خلدت حتى اليوم اللغة الديموطيقية المصرية.
وكما تطورت الحضارة الفرعونية عبر الأزمان والعصور، فإن هذه اللغة أيضاً ظهرت نتاج هذه التطورات والمتغيرات كلما تشعبت الحضارة المصرية القديمة وتطورت أنظمة إدارتها وازدادت متطلباتها.
ابتكر المصريون القدماء "الكتابة المصورة" في فترة يعود تاريخها إلى نحو 3200 قبل الميلاد. إلى جانب هذه الحروف الهيروغليفية الشهيرة، أنشأ الكتبة المصريون أيضاً طريقة أخرى للكتابة بخطوط موصولة، سميت الكتابة الهيراطيقية (الكهنوتية). كيّف هذا النمط أساسيات الرموز الهيروغليفية، ولكنه كان مخصصاً للكتابة بسرعة أكبر بالحبر على الأسطح مثل الفخار، وورق البردي.
في البداية، تم استخدام الهيروغليفية والهيراطيقية في الغالب لتدوين كلمات فردية، من ضمنها أسماء الأشخاص أو الأماكن أو السلع.
ولكن مع قدوم الأسرة الثالثة (نحو 2686 إلى 2613 قبل الميلاد)، تم تطوير مهارات الكتابة وتقاليد الكتابة الهيروغليفية بالكامل، حسبما ظهر في نصوص دينية مثل نصوص الأهرام ونصوص التابوت وكتاب الموتى.
استمرت تلك التقاليد الأدبية حتى عام 650 قبل الميلاد تقريباً، عندما شهدت الهيراطيقية تطوراً سريعاً نتج عنه نصان جديدان: "الهيراطيقية غير الطبيعية" قصيرة العمر في صعيد مصر، و"الديموطيقية" الأكثر ديمومة في مصر السفلى.
لم يمض وقت طويل قبل أن تصبح الديموطيقية هي النص السائد للأعمال اليومية في مصر. لم تحل محل الهيروغليفية والهيراطيقية تماماً، ولكن بمرور الوقت تم إبعاد تلك النصوص القديمة وحصرها بالنخبة، وباتت مستخدمة في المراسيم الدينية أو الاحتفالية أو الرمزية.
في علم المصريات، كانت اللغة الديموطيقية كأنها نص منبوذ أمام النصوص القديمة، وكان أول من كشف ألغاز الديموطيقية هو الألماني هاينريش كارل بروغش، الذي نشر أول قواعد منهجية للديموطيقية في علم المصريات عام 1848، بعد جيل من فك شامبليون عام 1822 رموز الترجمات الهيروغليفية، إذ كانت الديموطيقية أحد النصوص الثلاثة على حجر رشيد إلى جانب الهيروغليفية واليونانية.
لغة صعبة على دارسي التاريخ
اكتسبت اللغة الديموطيقية سمعة كونها صعبة التعلم للغاية، مما أدى إلى تجنب طلاب علوم المصريات دراستها، حسب موقع مركز الدراسات الأمريكية في مصر ARCE.
عانت الديموطيقية أيضاً من ارتباطها بقرون طويلة من "الانحطاط" المصري.
ازدهر النص الجديد فقط عندما وجدت مصر نفسها تحت سيطرة الإمبراطوريات الأجنبية: الفرس والإغريق والرومان.
في الواقع، حتى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، أظهر قليل من علماء المصريات اهتماماً كبيراً بتلك القرون الأخيرة من التاريخ المصري القديم أو باستخدام الديموطيقية لدراستها. ومع ذلك، منذ سبعينيات القرن الماضي، خاصة منذ التسعينيات، عادت الدراسات الديموطيقية، حيث أدرك العلماء الأصغر سناً المدى الواعد للمواد والفرص الناتجة عن استكشافها.
ولكن لماذا طور المصريون هذه اللغة؟
إن أصل معنى كلمة "الهيروغليفية" نفسها- وهي كلمة يونانية- "المنحوتات المقدسة"، أما المصريون، فأطلقوا على كتابتهم الهيروغليفية اسم Medut Netjeru (ميدت نتجيرو أو كلمات الآلهة)، واعتقدوا أن الإله تحوت خلقها.
وبحلول أواخر الأسرة الثامنة عشرة (نحو 1300 قبل الميلاد)، بدأ الكتبة بتدوين العديد من الوثائق اليومية بلغتهم العامية، ما يسمى الآن "المصري المتأخر".
أحد التفسيرات المحتملة لانفصال الديموطيقية عن الهيروغليفية والهيراطيقية هو أنه بحلول عام 650 قبل الميلاد، كانت اللغة التي يتحدث بها المصريون في الواقع مختلفة عن اللغة المصرية الوسطى.
ويرجح المؤرخون أن الكتبة الأصغر سناً أضحوا أكثر ميلاً إلى المغامرة بلغتهم العامية وربما شعروا بحرية متزايدة في تجاهل العديد من القواعد والأعراف الخاصة بالكتابة الهيراطيقية، تماماً كما تجاهلوا القواعد النحوية القديمة وقيود المفردات الخاصة بمصر الوسطى والمتأخرة.
نص شعبي بامتياز
وهكذا وُلد النص الديموطيقي، وهو نص "شعبي" حقاً، وسرعان ما تطور بسرعة.
أطلق المصريون على هذا النص الجديد "Sekh shhat" أو "نص الوثائق"، أما مصطلح "الديموطيقية" فصاغه المؤرخ اليوناني هيرودوت مشتقاً من كلمة ديموطيق الإغريقية التي تعني "شعبي"، وقدم مجموعة متنوعة من النصوص التي شهدها بمصر في القرن الخامس قبل الميلاد.
تُكتب اللغة الديموطيقية من اليمين إلى اليسار وبأحرف موصولة، كما تم اكتشاف عدة آلاف من النصوص الديموطيقية، من ضمنها المستندات اليومية مثل عقود العقارات وسجلات الزواج والخطابات والوصايا الشخصية.
لكن اللغة الديموطيقية أصبحت تُستخدم أيضاً في النصوص الأكثر شهرة، وضمنها الأدب الديني والعلماني، وكذلك في النصوص العلمية والفلكية والرياضيات والطب.
بعدما استولت الإمبراطورية الرومانية على مصر في عام 30 قبل الميلاد، استمر تعليم الديموطيقية واستخدامها، لكن أهميتها تضاءلت تدريجياً.
ثم أصر الرومان بشكل متزايد، على كتابة الوثائق القانونية باللغة اليونانية. ومع ذلك، فإن العديد من الأعمال الأدبية العظيمة معروفة من النصوص الديموطيقية في الفترة الرومانية، وقد عرف عدد كافٍ من الناس النص لترك رسومات ديموطيقية كبيرة على الجدران في مواقع بجميع أنحاء مصر.
أول معجم للغة الديموطيقية تنتجه جامعة أمريكية
في العام 2012، أعلنت مجموعة من أساتذة تاريخ ولغويات في جامعة شيكاغو عن إنشاء معجم لآلاف الكلمات التي تؤرخ للحياة اليومية للناس بمصر القديمة – وضمن ذلك الضرائب التي دفعوها، وماذا يتوقعون في الزواج، وكم العمل الذي كان عليهم القيام به للحكومة، حسب ما نشر موقع Phys.org.
المعجم نتاج 4 عقود من العمل المتعاقب، وتم توزيعه على مكتبات الجامعات المتخصصة بتدريس علوم المصريات، بينما تحتفظ الجامعة بحقوقه الفكرية تحت عنوان The Chicago Demotic Dictionary (CDD).
تعيش اللغة اليوم في كلمات مثل "أدوبي"، التي جاءت من الكلمة المصرية "طوب". وأوضحت محررة قاموس شيكاغو الديموطيقي جانيت جونسون، أن الكلمة انتقلت من خلال الديموطيقية، إلى العربية ثم إلى إسبانيا.
كما يأتي اسم خشب الأبنوس، وهو الخشب الداكن الذي تم تداوله أسفل نهر النيل من النوبة (السودان حالياً)، من الجذور الديموطيقية.
ومنها مثلاً اسم سوزان، الذي يرتبط بشكل غير مباشر بالكلمة الديموطيقية التي تعني زنبق الماء.