كافحت أوكرانيا لتشكيل مسار مستقل ممزق بين أوروبا والولايات المتحدة في الغرب من ناحية، وعلاقاتها المتأصِّلة تاريخياً مع روسيا في الشرق. تاريخ العلاقات بين روسيا وأوكرانيا حافل بالتوترات والمشاحنات ويعود للعصور الوسطى.
يشترك البَلَدَان في الجذور التي تمتد إلى الدولة السلافية الشرقية "كييف روس"؛ وهذا هو السبب الذي جعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يشير إلى البلدين على أنهما "شعبٌ واحد" رغم انقسام الموقف في أوكرانيا بين مؤيدٍ لهذه النظرية ورافضٍ لها.
لكن على أرض الواقع، تفرقت مسارات الدولتين لعدة قرون، ما أدى إلى ظهور لغتين وثقافتين، ورغم ارتباطهما الوثيق ببعض إلا أن هناك تمايزاً بينهما.
نعود في هذه السطور إلى محطات تاريخية مفصلية في تاريخ العلاقات بين الدولتين الجارتين.
ياروسلاف الحكيم يؤسِّس أول دولة للسلاف الشرقيين
البداية في القرن الحادي عشر، عندما وَحَّد أميرٌ يُدعى ياروسلاف الحكيم المناطق الواقعة بين بحر البلطيق والبحر الأسود "روس كييف"، ودون القوانين وتشكيل أول دولة سياسية للسلاف الشرقيين؛ تصنفه كل من روسيا وأوكرانيا على أنه المؤسس الأول.
تعتبر كل من روسيا وأوكرانيا أنهما الوريث السياسي لاتحاد روس كييف، وتمنح أوكرانيا وسام الأمير ياروسلاف الحكيم لخدمة الدولة، بينما تحمل فرقاطة روسية في بحر البلطيق اسمه، وتظهر صورته على نقود الدولتين.
ولفهم أهميّة كييف عاصمة أوكرانيا، يجب أن نعرفه أنّه في القرنين الثامن والتاسع الميلادي، انتشرت المسيحية من بيزنطة إلى الشعوب السلافية انطلاقاً من كييف. وكانت المسيحية بمثابة المرساة لروس كييف، الدولة السلافية المبكرة التي ينحدر منها الروس والأوكرانيون والبيلاروسيون.
بالنسبة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن دولة كييف روس هي دليل جزئي على أن روسيا وأوكرانيا "فضاء تاريخي وروحي واحد". تراجع اتحاد روس كييف مع الغزو المغولي في القرن الثالث عشر.
لكن في القرن السابع عشر، عندما تطورت روسيا سياسياً لتصبح إمبراطورية، عجزت أوكرانيا وقتها عن إقامة دولة خاصة بها، فتحولت لجزء من الإمبراطورية الروسية.
وكانت كييف تُعرف بأنها "أم المدن الروسية"، على قدم المساواة من حيث التأثير الثقافي مع مدنٍ أخرى روسية كاملة مثل موسكو وسانت بطرسبرغ.
لكن بعد تفكك الإمبراطورية الروسية العام 1917، شهدت البلاد فترة قصيرة من الاستقلال قبل أن يستعيدها الاتحاد السوفييتي بالقوة.
كانت أوكرانيا حجر الزاوية في دول الاتحاد السوفيتي. كما كانت ثاني أكثر الجمهوريات السوفييتية الخمس عشرة من حيث عدد السكان بعد روسيا.
وبحكم موقعها، كانت موطناً للإنتاج الزراعي والصناعات الدفاعية والعسكرية للاتحاد، بما في ذلك أسطول البحر الأسود وبعض الترسانة النووية. وفي أوكرانيا وقعت كارثة تشيرنوبل النووية.
وكان الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف قد منح شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا في عام 1954 لتقوية "العلاقات الأخوية بين الشعبين"، حسب موقع The Week.
ومع ذلك، منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، يتوق العديد من القوميين الروس في كل من روسيا وشبه جزيرة القرم إلى عودة شبه الجزيرة إلى روسيا، حيث تقع مدينة سيفاستوبول، الميناء الرئيسي لأسطول البحر الأسود الروسي، القوة البحرية المهيمنة في المنطقة.
أوكرانيا المستقلة في التسعينيات
في ديسمبر/كانون الأول 1991، وقَّعت أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا اتفاقية أدت فعلياً إلى حل الاتحاد السوفييتي.
كانت موسكو حريصة على الحفاظ على نفوذها في المنطقة واعتبرت كومنولث الدول المستقلة (CIS) الذي تم تشكيله حديثاً أداة لتنفيذ رغباتها.
اعتقد الكرملين أيضاً أن إمدادات الغاز الرخيصة ستبقي أوكرانيا في مدارها، لكن الأمور سارت بشكل مختلف تماماً. وبينما شكلت روسيا وبيلاروسيا تحالفاً وثيقاً، كانت أوكرانيا تتجه رويدًا رويدًا إلى أحضان الغرب.
كانت روسيا تتابع عن كثب ما يحدث في أوكرانيا، لكنه لم يكن كافياً لإشعال صراع بين الجانبين خلال التسعينيات. بدت موسكو غير مهتمة، لأن الغرب لم يكن لديه نية لدمج أوكرانيا في مجال نفوذه، لكن كانت روسيا نفسها ايضًا منكوبة اقتصادياً ومنشغلة في حروبها في الشيشان، وفي آثار ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
بعد ذلك في عام 1997، وقعت روسيا وأوكرانيا معاهدة الصداقة والتعاون والشراكة، والمعروفة أيضاً باسم "المعاهدة الكبيرة". وبهذا الاتفاق، اعترفت موسكو بحدود أوكرانيا الرسمية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، موطن الأغلبية العرقية الروسية.
علماً أنه يعيش ما يقرب من 8 ملايين من أصل روسي في أوكرانيا من إجمالي 48 مليون نسمة، وفقاً لتعداد عام 2001، معظمهم في الجنوب والشرق.
2003.. أول أزمة دبلوماسية
وقعت أول أزمة دبلوماسية كبيرة بين الجانبين مع رئاسة فلاديمير بوتين.
في خريف عام 2003، بدأت روسيا بشكل غير متوقع في بناء سد في مضيق كيرتش بالقرب من جزيرة توزلا في أوكرانيا. ورأت كييف في ذلك محاولة من جانب روسيا لإعادة رسم الحدود الوطنية، ولم يتم حل النزاع إلا بعد لقاء وجهاً لوجه بين الرئيسين.
توقف بناء السد، لكن الشقوق بدأت تظهر في الواجهة الودية التي قدمها الجانبان. تصاعدت التوترات خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2004 في أوكرانيا، حيث ألقت موسكو بكل ثقلها خلف المرشح المؤيد لروسيا، فيكتور يانكوفيتش.
منعته "الثورة البرتقالية" في البلاد من تولي المنصب بإعلان الانتخابات مزورة وأصبح المرشح الموالي للغرب فيكتور يوشينكو رئيساً للبلاد.
ردت روسيا بقطع شحنات الغاز إلى أوكرانيا في العام 2006 والعام 2009، كما أوقفت إمدادات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي.
وفي عام 2008، دعم الرئيس الأمريكي آنذاك جورج دبليو بوش فكرة ضم أوكرانيا وجورجيا إلى الناتو، على الرغم من احتجاجات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لم تقبل حكومته استقلال أوكرانيا بشكل كامل.
أحبطت ألمانيا وفرنسا خطة بوش، خوفاً من أن يعطل دعم عضوية أوكرانيا العلاقات مع روسيا. وقال وقتها الأمين العام لحلف الناتو ياب دي هوب شيفر إن الحلف بحاجة إلى تطوير استراتيجية جديدة طويلة المدى بما في ذلك تحسين الحوار والتعاون مع روسيا، حسب موقع دوتيشه فيله.
وفي قمة الناتو في بوخارست برومانيا، تمت مناقشة الانضمام، ولكن لم يتم تحديد جداول زمنية لبدء العملية.
ولأن الأمور لم تسِر على النحو المأمول مع الناتو، بذلت أوكرانيا محاولة أخرى لتعزيز علاقاتها مع الغرب باتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي.
لكن في صيف عام 2013، قبل أشهر قليلة من التوقيع الرسمي للوثيقة، أوضحت روسيا أنه تم تجاوز الخط الأحمر ومارست ضغوطاً اقتصادية عبر حظر البضائع الأوكرانية.
وأعلنت حكومة الرئيس المنتخب في عام 2010 آنذاك والمدعوم من روسيا، فيكتور يانكوفيتش، تجميد الاتفاق، ثم وقع مع بوتين على اتفاقية إقراض أوكرانيا 15 مليار دولار كمساعدة مالية وخصم 33٪ على أسعار الغاز الطبيعي.
التوقيع على المعاهد قوبل باحتجاجات حاشدة ومستمرة في أوكرانيا كادت تؤدي لاندلاع حرب أهلية.
وفي فبراير/شباط من العام التالي، هرب الرئيس الأوكراني إلى روسيا.
من الجدير ذكره أن روسيا تدفع مليارات الدولارات سنوياً إلى كييف كرسوم عبور الغاز إلى دول وسط وشرق أوروبا.
لكن في منتصف عام 2021، أكملت روسيا بناء خط أنابيب نورد ستريم 2، الذي يمتد تحت بحر البلطيق إلى ألمانيا. وعلى الرغم من أن التعاقد مع أوكرانيا يستمر لعدة سنوات أخرى، يحذر بعض النقاد في الغرب من أن نورد ستريم 2 سيسمح لروسيا بتجاوز خطوط الأنابيب الأوكراني واكتساب نفوذ جيوسياسي أكبر في المنطقة.
2014.. روسيا تضم شبه جزيرة القرم
استغل الكرملين فراغ السلطة في كييف وضم شبه جزيرة القرم في آذار/مارس 2014.
كانت تلك العملية نقطة تحول في العلاقات بين البلدين وبداية حرب غير معلنة. في الوقت نفسه، بدأت القوات شبه العسكرية الروسية في التعبئة لانتفاضة في منطقة دونباس بشرق أوكرانيا وأنشأت "جمهوريات شعبية" بقيادة روسيا.
انتظرت الحكومة في كييف إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في مايو 2014 لشن هجوم عسكري كبير وصفته بـ"مكافحة الإرهاب".
في يونيو/حزيران 2014، التقى الرئيس الأوكراني المنتخب حديثاً بترو بوروشنكو على هامش الذكرى السبعين للاحتفالات بعيد النصر في نورماندي مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. تم الاجتماع، الذي عُرف فيما بعد باسم محادثات صيغة نورماندي، بوساطة ألمانية وفرنسية.
في نفس الوقت تقريباً، كان الجيش الأوكراني قادراً على صد الانفصاليين، ولكن في نهاية أغسطس/آب، وفقاً لكييف، تدخلت روسيا عسكرياً. ونفت موسكو ذلك.
تعرضت الوحدات الأوكرانية لهزيمة كبيرة، وانتهت الحرب في سبتمبر/أيلول بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في مينسك.
حرب الاستنزاف في دونباس
ما أعقب ذلك كان حرب استنزاف استمرت حتى يومنا هذا. في أوائل عام 2015، شن الانفصاليون الهجوم مرة أخرى، وحصلوا على دعم من القوات الروسية، ونفت موسكو ذلك أيضاً.
تعرضت القوات الأوكرانية لهزيمة ثانية، هذه المرة بالقرب من مدينة ديبالتسيف ذات الأهمية الاستراتيجية، وأُجبرت على الانسحاب.
ستنتج الوساطة الغربية فيما بعد ما كان يعرف باسم بروتوكول مينسك، وهو اتفاق يعمل كأساس لجهود السلام التي لم تتحقق حتى يومنا هذا.
كانت آخر مرة ظهر فيها بصيص أمل في المنطقة في خريف عام 2019، عندما سحبت بعض القوات من جانبي الخطوط الأمامية.
لكن قمة نورماندي في باريس في ديسمبر/كانون الأول 2019 كانت آخر مرة جلس فيها الجانبان على نفس الطاولة.
يواصل بوتين مطالبة الولايات المتحدة بإبقاء أوكرانيا خارج الناتو وعدم تزويد البلاد بأي مساعدة عسكرية، لكن حلف الناتو يرفض هذا المطلب بشكل قاطع.
وعلى الرغم من مساعي أوكرانيا لعضوية الناتو والاتحاد الأوروبي، تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن الرأي العام الأوكراني بشأن هذه الأمور لا يزال مختلطاً.
في حين أن أكثر من نصف الذين شملهم الاستطلاع (باستثناء سكان شبه جزيرة القرم والمناطق المتنازع عليها في الشرق) يدعمون فكرة عضوية الاتحاد الأوروبي، بينما 40 إلى 50% منهم فقط يؤيدون الانضمام إلى حلف الناتو، حسب موقع منظمة مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي Cfr.