تأمَّل الرسومات التي تركها لنا المصريون وستفتح على الفور نافذة على الماضي تخبرك بكثير من الأسرار حول الطريقة التي عاش بها القدماء.. كيف بنوا آثارهم، كيف زرعوا حقولهم، كيف عبدوا آلهتهم وحتى ماذا تناولوا على موائدهم.
قد لا نعرف جميع الأطعمة التي ضمتها المائدة المصرية القديمة، لكن الرسومات التي وُجدت في مقابر المصريين القدماء خلَّفت لنا فكرة لا بأس بها عن أبرز أطعمتهم المفضلة، دعونا نستعرضها عليكم في هذا التقرير:
المقابر.. دليلنا إلى المطبخ المصري القديم
على نحو مثير للاهتمام تعتبر المقابر المصدر الأساسي لما نعرفه عن المطبخ المصري القديم.
إذ تمتلئ جدران المقابر برسومات الطعام الذي كان يقدم على موائد المصريين، فضلاً عن منحوتات لبعض الأطعمة ومواد غذائية مخزنة في المقابر منذ آلاف السنين؛ لتكون طعاماً يتناوله المتوفى مع خدم العالم الآخر.
على سبيل المثال، إذا زرت المتحف المصري في تورين بإيطاليا، فستجد كومة من الدهون يبلغ عمرها 3000 عام وُجدت محفوظة في إحدى المقابر بالقرب من الأقصر.
وتقول عالمة الآثار المتخصصة في تاريخ الطعام، الدكتورة منة الله الدري، لموقع Middle East Eye، إن الموتى كانوا يُدفنون مع عدد من الأطعمة الشهية، وكانت أصناف المأكولات تُنقش على جدران مقابرهم؛ على أمل أن تكون طعاماً يحميهم من الجوع إلى الأبد.
فقد اعتقد المصريون القدماء أن النقوش تحمل سحراً عميقاً من شأنه أن يمد المتوفى بأطعمته المفضلة إلى ما لا نهاية.
ورغم أن تلك النقوش لم تقدم وصفات تفصيلية عن الأطعمة التي تناولها المصريون قديماً، فإنها تعطينا فكرة واضحة عن الأطعمة الأساسية في مصر القديمة، والتي كان من أبرزها:
كعكة جوز النمر
في قبر رخميرع، أحد نبلاء الأسرة الثامنة عشرة، اكتُشفت بعض الرسوم التي تشرح طريقة صنع كعكة جوز النمر وهي حلوى عمرها 3000 عام.
وفي عام 2019 شرعت الدري في تحضير هذه الكعكة بناءً على التعليمات التي رُسمت على جدران القبر.
وفقاً للرسومات التي كُتبت إلى جانبها بعض التعليمات باللغة الهيروغليفية، يقوم الرجال أولاً بقطف ثمار نبتة جوز النمر وطحنها ثم يخلطونها بالماء، ويبدو أنهم يقومون بقليها بعد ذلك.
ولكن لا نستطيع القول إن رسومات القبر تشكل وصفة كاملة، إذ نجهل تحديداً المقادير التي استخدمها المصريون في صنع هذه الحلوى، كما نجهل الشكل النهائي لها.
تقول الدري إنها اختارت مع فريقها صنع الحلوى على شكل مخاريط، لأن أشكالاً أخرى مثل المثلثات تكسرت قبل البدء بقليها.
الخبز والجعة
بينما اختلفت الأساليب والوصفات عبر القرون والممالك، كان الخبز دائماً مكوناً أساسياً في المائدة المصرية القديمة.
تشير السجلات إلى وجود نحو 40 نوعاً مختلفاً، من ضمنها الخبز المسطح المشهور في الأرياف حتى يومنا هذا.
وقد اكتُشف رسمٌ عمره 4400 عام، بأحد المقابر في سقارة، يوضح عملية صنع الخبز وتخمير البيرة.
إذ تقوم امرأتان بطحن الحبوب على أحجار الرحى الصلبة، بينما تقوم امرأتان أخريان بطحن الدقيق. وتقوم إحداهما بإزالة بقايا القشور بينما تجثو أخرى على ركبتيها للغربلة.
ويعجن رجلان العجينة قبل وضعها في الفرن الذي تجلس أمامه امرأة تحمي وجهها من الحرارة.
بينما يقوم صانع الجعة بتمرير الخبز من خلال منخل، ويقوم رجل يجلس القرفصاء بإعداد البرطمانات للبيرة المخمرة.
بالنسبة للمصريين القدماء، كانت الجعة عبارة عن طعام سائل كثيف مليء بالتكتلات والأعشاب والسعرات الحرارية وليست نوعاً من المشروبات.
وتقول الدري إن النبيذ كان حكراً على النبلاء، لكن الجعة كانت مصدراًغذائياً مهماً متاح للجميع على مدار العام.
وتعتبر الجعة طعاماً مصرياً مشهوراً من الناحية التاريخية، فعندما زار المؤرخ اليوناني هيرودوت مصر أطلق عليها اسم "نبيذ مصنوع من الحبوب"، لأنه لم يسبق أن رأى شيئاً مماثلاً لها.
بصل أخضر وعدس
يبدو أن البصل الأخضر كان من الخضراوات الرئيسية على المائدة المصرية آنذاك، إذ يظهر بكثافة في كثير من الرسومات القديمة.
لكن الدري تقول إن اختيار رسم البصل الأخضر دون غيره قد يكون خياراً فنياً بالدرجة الأولى، فرسم البصل الأخضر على سبيل المثال مُثير للاهتمام بصرياً أكثر من العدس.
وتضيف أن العدس على سبيل المثال كان طعاماً يأكله المصريون بانتظام وبكميات كبيرة، ومع ذلك فنادراً ما وُجد العدس في المقابر، وقد يكون السبب هو اعتباره طعاماً شائعاً للغاية ولا يستحق الحفاظ عليه إلى الأبد. ويمكن قول الشيء نفسه عن التمور، التي نادراً ما توجد في المقابر، على الرغم من وجود كثير من الأدلة على استهلاكها بمصر القديمة.
أزهار الماندريك واللوتس
ظهرت أزهار الماندريك في كثير من الرسومات المصرية القديمة، لكن لا يُعلم على وجه التحديد ما إذا كان قد تم تناولها في واقع الأمر أو استنشاقها لتأثيرها المخدر أو إهداؤها إلى الشريك كرمز للتعبير عن الحب.
وقد ظهرت الماندريك على موائد الطعام، مما يشير إلى أنه قد تم تناولها، لكن يُعتقد أيضاً أنها كانت مكوناً أساسياً في الأكاسير، بسبب تأثيرها المخدر.
زهور اللوتس منتشرة في الرسومات المصرية أيضاً، وفيما يعتقد البعض أنها كانت للزينة فقط، يعتقد آخرون مثل هيرودوت أن المصريين تناولوا زهور اللوتس وأن نقْع هذه الأزهار في الكحول من الممكن أن يزيد من نسبة إدمانها.
لماذا لم نعثر على وصفات طعام كاملة؟
وعلى الرغم من وجود كثير من الرسومات التي تدل على أطعمة معينة تناولها المصريون القدماء، فإنه لا توجد "وصفات" بالمعنى التقليدي للكلمة لأي من هذه الأطعمة.
وفقاً للدري، فإن الهدف من كتابة الوصفة هو نشرها، ولكن في مصر القديمة كان معظم أفراد المجتمع أميين، لذلك فإنَّ نقل الوصفات بشكل شفهي كان أداة أقوى بكثير.
وتضيف الدري أنه علينا أن نتذكر أن ما كُتب على جدران المقابر لم يكن للأحياء بل للأموات. فقد كان الهدف من هذه الرسومات والكتابات تزويد الشخص الميت بكل ما يحتاجه في الحياة الآخرة، ولم تكن وصفات الطعام من ضمن هذه الاحتياجات.
إذ يكفي أن يتم رسم خطوات تحضير الطعام بشكل بسيط في المقابر ليصبح كل شيء جاهزاً بطريقة سحرية للموتى في العالم الآخر.